تأثيرات حرب غزة على الأمن الإقليمي والدولي في جنوب البحر الأحمر
ملخص
تناقش هذه الدراسة تأثيرات التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة على الأمن الإقليمي والدولي وحركة الملاحة في جنوب البحر الأحمر، سيما في الممر الاستراتيجي المعروف (مضيق باب المندب)، وهي المنطقة التي كانت قد شهدت تصعيداً متبادلا في العامين الماضيين، اعتبره الخبراء والمراقبون (حرب ظل)، أو (حرب السفن) بتعبير آخر، بين إسرائيل وحلفائها من جهة، وإيران ووكلائها المحليين من جهة ثانية، خاصة وأن الحوثيين (المسلحين الشيعة الذين يسيطرون على عدة محافظات شمال اليمن منها العاصمة صنعاء منذ العام 2014)، نفذوا عمليات بحرية عدة استهدفت حركة النقل والملاحة في هذا الممر الاستراتيجي.
تنطلق الدراسة من جملة من الحقائق التاريخية والجغرافية عن الترابط الوثيق بين مدخلي البحر الأحمر الشمالي في قناة السويس والجنوبي في مضيق باب المندب، وهي حقائق تعززت خلال القرنين الميلاديين المنصرمين (التاسع عشر والعشرين)، وفي الوقت الراهن تتجلى مؤشرات كثيرة تؤكد أن ثمة ترابط بين جنوب البحر الأحمر وشماله، بالنظر إلى الصراعات التي احتدمت بين قوى الاستعمار الأوروبي قديماً ثم بين أطراف الصراعات والحروب التي نشبت في السبعين عاماً الماضية، وفي مقدمتها حروب إسرائيل ضد الدول العربية، سيما في العدوان الثلاثي ضد مصر في العام 1956، وحربي 1967 و 1973.
شمال البحر الأحمر وجنوبه.. أهمية استراتيجية وتأثيرات متبادلة
يمتلك البحر الأحمر أهمية استراتيجية لموقعه الجغرافي المميز بين قارتي آسيا وأفريقيا من جهة، ولارتباطه بقارة أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، وبالمحيط ين الهندي والهادي عبر خليج عدن وبحر العرب جنوباً، وقد زادت أهميته الاستراتيجية بعد فتح قناة السويس (شمال البحر الأحمر)، في العام 1869، حيث سعت القوى الاستعمارية الكبرى حينها (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) إلى تثبيت أقدامها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي في مضيق باب المندب، وبعد نحو 40 سنة عقدت الدول الثلاث اتفاقاً لتحديد مصالحها في البحر الأحمر، استخدمت بريطانيا عدن التي تحتلها منذ عام 1839 لتوسيع نفوذها في المنطقة، خاصة وأنها تمكنت من احتلال مصر عام 1882، أما فرنسا فقد سيطرت على أجزاء من الساحل الأفريقي بعد استيلائها على جيبوتي.
وكما كشفت صراعات الدول الاستعمارية الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عن أهمية البحر الأحمر وارتباط مدخليه الرئيسيين الشمالي والجنوبي، فقد جاء الصراع العربي- الإسرائيلي منذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، ليؤكد أهمية المنطقة إقليمياً وعالمياً، والترابط الحيوي بين شمالها وجنوبها، حيث بدأ التنافس على السيطرة على البحر الأحمر بين إسرائيل والدول العربية المطلة على البحر الأحمر، ففي مارس/أذار 1949 احتلت القوات الإسرائيلية قرية أم الرشراش وبنت عليها ميناء إيلات، لترسخ لها موطئ قدم في خليج العقبة، ورداً على ذلك تعاونت مصر والسعودية عام 1950 من أجل إخضاع جزيرتي تيران وصنافير – الواقعتين على مضيق تيران عند مدخل خليج العقبة – تحت سيطرة مصر العسكرية. واتخذت مصر في أوائل الخمسينيات سلسلة من الإجراءات بهدف منع عبور سفن الشحن الإسرائيلية عبر خليج العقبة، الأمر الذي أدى إلى قطع روابط إسرائيل مع الأسواق الآسيوية والأفريقية[1]. بعدها بدأ الاهتمام يتحول إلى منطقة جنوب البحر الأحمر، حيث دعمت جمهورية مصر بقيادة جمال عبدالناصر ثورة سبتمبر/أيلول 1962، وبعثت بجنود إلى هناك مما مكّن القوات البحرية المصرية من الوصول إلى سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر. وزاد الاهتمام بالبحر الأحمر خلال اجتماعات جامعة الدول العربية، مع إبداء كل من الجمهورية العربية اليمنية في صنعاء (اليمن الشمالي) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في عدن (اليمن الجنوبي) مخاوف بشأن أنشطة إسرائيلية في البحر الأحمر. وكانت وزارة الخارجية المصرية قد حصلت على تقارير استخباراتية حول الأنشطة الإسرائيلية في الممر البحري[2]. وفي حرب يونيو/حزيران 1967 كان من أسباب التفوق الإسرائيلي قيام حليفتها بريطانيا بالسيطرة على مضيق باب المندب وإبقاء قواتها بالقرب من المضيق الاستراتيجي، وعلى النقيض من ذلك كان من أسباب التفوق العربي في الحرب التالية (حرب أكتوبر/تشرين 1973)، قيام الحكومتين اليمنية والمصرية بإغلاق مضيق باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية[3].
"طوفان الأقصى" وخطوط الحلفاء
بعد يوم واحد من حلول الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر المذكورة، التي تطلق عليها إسرائيل حرب (كيبور)، أي عيد الغفران، بدأت حرب جديدة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية التي أطلقت صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الماضي (2023)، عملية مباغتة باسم (طوفان الأقصى)، ونفذت خلالها عدة هجمات على مواقع عسكرية وأمنية إسرائيلية، أوقعت مئات القتلى والأسرى من الجنود والضباط في الجيش الإسرائيلي، وعلى الفور أعلنت تل أبيب الحرب الشاملة ضد قطاع غزة تحت اسم (السيوف الحديدية).
وبعد أيام قليلة على اندلاع الحرب أطلق زعيم جماعة الحوثيين، عبدالملك الحوثي تهديده باستهداف إسرائيل من خلال الصواريخ والطائرات المسيرة، وبعد ذلك أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن إطلاق عدد من الصواريخ ضد أهداف إسرائيلية، ومع إنها لم تحقق أهدافها إلا أن ثمة من يثير تساؤلات حول مدى جديتها وقدرتها على إلحاق الأضرار بالجيش الإسرائيلي أو بمنشئات وأهداف إسرائيلية مهمة.
تعاطت الحكومة الإسرائيلية مع التصعيد الحوثي كتهديد ثانوي، أرجأت الرد عليه والتعامل معه إلى وقت وأجل غير معلوم، ذلك أن تركيزها ينصب في الوقت الراهن على قطاع غزة، وعلى جنوب لبنان وإن بدرجة أقل، مع إنها مستمرة في استهداف مواقع وأهداف إيرانية وسورية داخل سوريا، الأمر الذي يؤكد- ما ذهب إليه مراقبون – من أن جبهة الحوثيين "لن تكون بنفس درجة التأثير التي تحظى بها الجبهة الشمالية بشكل خاص (حزب الله)، ليس فقط بسبب تنوع آليات الردع الإسرائيلي والأمريكي، ولكن هناك رغبة أمريكية في التركيز على مواجهة حماس في قطاع غزة، وعدم فتح جبهات أخرى من شأنها أن تتسبب في تشتيت مساعي حسم الحرب في القطاع لصالح إسرائيل"[4]، وهو ما لم يتحقق حتى كتابة هذه السطور ، بعد قرابة 50 يوماً على اندلاع الحرب التي زعمت تل أبيب أنها تسعى من خلالها لتقويض حركة (حماس).
بيد أنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الإسرائيليين يرون في الوجود الإيراني جنوب البحر الأحمر، عبر جماعة الحوثيين تهديداً مباشراً لهم، بالنظر إلى أن إيران زودتهم بصواريخ وطائرات مسيرة يمكن أن تصل إسرائيل، كما أنهم يستطيعون استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، بالاحتجاز والسيطرة أو بالمهاجمة من خلال قيامهم بزراعة ألغام بحرية، كما فعلوا في فبراير/شباط 2021 مع السفينة الإسرائيلية (ام في هيليوس راي)، خاصة وأن حرب الظل مع إيران التي اشتملت على سلسلة اغتيالات استهدفت علماء نوويين إيرانيين، وتفجيرات غامضة في منشآت نووية إيرانية – انتقلت إلى "الساحة البحرية"، التي تحتل أهمية كبيرة، سيما وأن إسرائيل تعتمد على الشحن البحري في معظم تبادلاتها التجارية.
استراتيجية واشنطن مع التصعيد: المواجهة جنوباً والمحاصرة شمالاً
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة ظلت التصريحات الصادرة عن الإدارة الأمريكية تؤكد دعمها إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، مع تأكيدها على أنها سوف تبذل قصارى جهدها لكي تحول دون أن يتوسع الصراع خارج قطاع غزة أو خارج فلسطين، وهي تقصد بذلك احتمالات تدخل خارجي – من إيران أو تركيا – لدعم المقاومة الفلسطينية أو استهداف إسرائيل والقوى الداعمة لها، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، التي تمتلك قواعد عسكرية في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وفي العراق وسوريا أيضاً.
وفيما أعربت واشنطن عن استراتيجيتها الرامية إلى محاصرة التصعيد في حدود قطاع غزة، فإن طهران هي الأخرى بدت ملتزمة بهذه الاستراتيجية في الغالب، باستثناء مناوشات متقطعة في شمال إسرائيل وجنوب لبنان، يقوم بها وكيل إيران هناك (حزب الله)، وهجمات متفرقة ينفذها وكلاء آخرون في العراق وسوريا ضد القواعد الأمريكية لكن دون حدوث أضرار معتبرة.
كانت الولايات المتحدة لوحت بالرد في حال تدخلت أطراف أخرى في المواجهة ضد إسرائيل، وأوضح باتريك رايدر المتحدث باسم البنتاغون أواخر أكتوبر/تشرين الماضي إن واشنطن مازالت تعمل على تحديد المسؤول عن الهجمات الأخيرة التي استهدفت القوات الأميركية بسوريا والعراق، مشيراً إلى أن المعلومات المتوفرة لدى بلاده لا تظهر أن لإيران علاقة مباشرة بهجمات حماس الأخيرة.
وعلى الرغم من الإعلانات المتبادلة لكل من الجيش الإسرائيلي وحزب الله عن العمليات العسكرية التي يقوم بها كل طرف ضد الآخر، إلا أنها – لا ترقى إلى مستوى التصعيد الذي تشهده غزة، ويرى محللون أمريكيون أن الردود التي يقوم بها وكلاء طهران ضد إسرائيل والولايات المتحدة تؤكد التزام طهران بالخطوط الحمراء التي وضعتها واشنطن، خاصة في المسرحين الإقليميين الأول في جنوب لبنان والثالث في العراق وسوريا.
بيد أن بعض الخبراء الأمريكان يمموا وجوههم شطر المسرح الإقليمي الثاني الذي شهد هو الآخر تصعيداً مماثلاً ومعبراً عن التوجهات الإيرانية ولكن بصورة غير مباشرة، فهو اليمن، تحديداً مناطق سيطرة وكلاء إيران الحوثيين، الذين هددوا – بعد أيام قليلة على اندلاع حرب غزة – بإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة ضد أهداف إسرائيلية.
ومع إن الهجمات التي أعلن عنها الحوثيون كانت عبارة عن صواريخ أو طائرات مسيرة سقطت- أو أُسقطت في مناطق بعيدة عن الأهداف المحددة إلا أن تصاعد التهديد الحوثي- في 19 نوفمبر/ تشرين الماضي المتمثل في احتجاز سفينة تجارية – تحت مبرر أنها سفينة إسرائيلية، يثير تساؤلات عدة عن مصير هذه الأعمال في ظل تصاعد الحرب التي تشنها إسرائيل ضد غزة، وبالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب، خاصة وقد أثبت الحوثيون قدرة داعميهم الإيرانيين على إلحاق الضرر بحركة الملاحة والتجارة الدولية عبر المضيق الأكثر أهمية وحيوية لحركة التجارة العالمية.
فيما يتعلق بجنوب البحر الأحمر فإن الولايات المتحدة وحلفائها الدوليين والإقليميين يقودون منذ أكثر من عامين جهودا عسكرية وأمنية لمواجهة التهديدات المحتملة سواء من إيران ووكلائها أو من الصين وروسيا، ففي يناير/كانون 2020 أُعلن في الرياض عن إنشاء "مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن"، وضم 8 دول عربية وإفريقية، هي: السعودية، مصر، الأردن، السودان، اليمن، إرتيريا، الصومال، جيبوتي. ووفقاً لبيان التأسيس فإن المجلس يأتي "استشعارًا بأهمية التنسيق والتشاور حول الممر المائي باعتبار البحر الأحمر المعبر الرئيسي لدول شرق آسيا وأوروبا"[5]. مع التـأكيد على أن المجلس سيعمل على "حفظ المصالح المشتركة ومواجهة جميع المخاطر، والتعاون في الاستفادة من الفرص المتوفرة"[6].
وجاء الإعلان عن المجلس بعد أيام قليلة على التوتر المتصاعد الذي شهدته المنطقة في ظل التهديدات المتبادلة بين واشنطن وطهران التي توعدت بالانتقام لمقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني في غارة أمريكية بالعراق، ثم مشاركة إيران في مناورات بحرية ثلاثية مع روسيا والصين في خليج عُمان والمحيط الهادي، الأمر الذي يرجح وضع مؤسسي المجلس الجديد التهديدات الإيرانية بعين الاعتبار، خاصة في ظل تحركات إيران وحلفائها الحوثيين في البحر الأحمر، بالقرب من الممر المائي الدولي مضيق باب المندب[7].
وفي أبريل/ نيسان 2022، أعلنت قوات البحرية الأمريكية تشكيل قوة المهام المشتركة (153)، وذلك للقيام بدوريات في البحر الأحمر والعمل على مكافحة "الأنشطة الإرهابية والتهريب"، وبحسب قائد الأسطول الخامس الأمريكي، الأدميرال براد كوبر، فإن القوة ستعمل على "تعزيز التعاون بين الشركاء البحريين الإقليميين لتحقيق الأمن في البحر الأحمر وأجزاء من المحيط الهندي ومضيق باب المندب وخليج عدن"[8]، ولا يخلو توقيت هذا الإعلان من الارتباط بالتطورات المتسارعة في اليمن والممر الدولي، ذلك أنه جاء بعد فترة قصيرة على احتجاز الحوثيين الموالين لإيران- الخصم الأبرز لواشنطن- سفينة شحن إماراتية كانت تحمل مواد طبية سعودية، وهو ما يؤكد وجود تهديدات إيرانية للممر نفسه وحركة الملاحة الدولية.
الجدير ذكره أن "قوة المهام المشتركة- 153"، هي رابع فرقة فيما يُعرف بـ"القوات البحرية المشتركة" CMF، التي تضم، بجانبها، "قوة المهام المشتركة 150"، و"قوة المهام المشتركة 151"، و"قوة المهام المشتركة 152". وتضطلع الفرقة بحفظ الأمن البحري، وبناء قدرات الدول، بالتعاون المباشر مع "قوة المهام المشتركة 151" التي تنتشر قطعاتها البحرية في خليج عدن، وقبالة سواحل الصومال[9]، وفي ديسمبر/كانون أول 2022، تولت مصر قيادة عمليات القوات البحرية المشتركة، وهي المرة الأولى التي تتسلم فيها القيادة منذ انضمامها إلى الشراكة البحرية التي تتكون من 34 دولة في أبريل 2021[10].
ويمكن إيجاز أهداف القوة البحرية الأمريكية في تأمين ممرات الملاحة الدولية، في إطار سياق تكاملي مع قوة العمل المشتركة الدولية في المنطقة، ومواجهة التهديدات البحرية المتعلقة بنشاط التنظيمات الإرهابية وجماعات الجريمة والقرصنة، بالإضافة إلىتحقيق سيطرة بحرية أوسع وأكبر نطاق بمنطقة الخليج والبحر الأحمر، وخلق هامش حركة أكبر للقوات الأمريكية من المنطقة إلى جنوب شرق آسيا، والاستعداد لأي تحولات جيوسياسية في المنطقة، خاصة مع التقارب السعودي الإيراني الأخير الذي تم برعاية صينية، ما يثير المخاوف لدى الولايات المتحدة في ظل الصراع الراهن مع الصين وامتداد أمد الحرب الأوكرانية.[11]
وبعد نحو شهر من اندلاع الحرب في غزة بدأت التوقعات من قبل محللين ومراقبين تشير إلى احتمال توسع هذه الحرب، جنوباً باتجاه مضيق باب المندب، في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وشمالاً في قناة السويس، وشرقاً في مضيق هرمز على الخليج العربي[12]، ويعللون ذلك بكون الحرب الراهنة ليست حرب إسرائيل، بل هي حرب الولايات المتحدة الأمريكية، التي "تسعى للسيطرة على أهم ممرات الملاحة الدولية كجزء من الحرب على الصين ومشروع الحرير"، بحسب الباحث السياسي اليمني عبدالسلام محمد، رئيس مركز أبعاد للدراسات والبحوث.
مؤشرات التصعيد الحوثي جنوب البحر الأحمر
بعد ما شنت إسرائيل الحرب على قطاع غزة أطلق الحوثيون تهديداتهم باستهداف إسرائيل عبر الطائرات المسيرة والصواريخ، وكذلك السفن الإسرائيلية أو التي تملكها شركات إسرائيلية، وفيما يلي رصد بأهم مؤشرات الاستهداف الحوثي لأهداف إسرائيلية منذ بداية الحرب:
- في 20 أكتوبر/تشرين الأول، أسقطت سفينة تابعة للبحرية الأميركية في البحر الأحمر صواريخ وطائرات مسيرة أطلقها الحوثيون باتجاه إسرائيل، وفق بيان صادر عن البنتاغون.
- في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت جماعة الحوثي للمرة الأولى استهداف إسرائيل بعدد من الطائرات المسيرة والصواريخ، ومن جهته أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي في اليوم نفسه استخدامه منظومة "سهم-حيتس" المضادة للصواريخ الباليستية، لاعتراض صاروخ أرض-أرض أطلق من البحر الأحمر، مضيفاً في بيانه، إن "منظومات الرصد التابعة لسلاح الجو تابعت مسار الصاروخ، حيث اعتُرض بنجاح في التوقيت والموقع العملياتي الأنسب"، وقال جيش الاحتلال الإسرائيلي إن هذه هي المرة الأولى منذ بداية الحرب التي يُنفّذ فيها اعتراض عملياتي من خلال منظومة حيتس الدفاعية للمدى الطويل.
- في الثامن من نوفمبر، أكد مسؤولون في وزارة الدفاع الأمريكية، أن الحوثيين أسقطوا طائرة عسكرية أمريكية مسيّرة من طراز "إم كيو-9" قبالة سواحل اليمن.
- في التاسع من نوفمبر/تشرين ثان، استخدم الجيش الاسرائيلي للمرة الأولى نظامه المضاد للصواريخ "آرو 3" من أجل اعتراض مقذوف أُطلِق من منطقة البحر الأحمر، في حين قال الحوثيون إنهم أطلقوا صواريخ باليستية ضد إسرائيل.
- في 14 نوفمبر/تشرين، أعلنت جماعة الحوثي إطلاق دفعة من الصواريخ الباليستية ضد أهداف داخل إسرائيل، وقال المتحدث العسكري باسم الحوثيين العميد يحيى سريع في بيان، إن قواتهم المسلحة أطلقت دفعة جديدة من الصواريخ الباليستية على أهداف مختلفة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي وقت سابق من اليوم نفسه أعلن الجيش الإسرائيلي اعتراض صاروخ أرض-أرض قال، إنه أطلق على ما يبدو من اليمن، تجاه مدينة إيلات على ساحل البحر الأحمر، وفق ما ذكرته هيئة البث الرسمية الإسرائيلية.
- في 19 نوفمبر/تشرين ثان، أعلن الحوثيون احتجاز "سفينة شحن إسرائيلية" في البحر الأحمر ونقلوها إلى ميناء الصليف بالحديدة (غرب اليمن)، في حين نفت تل أبيب أن تكون السفينة إسرائيلية واصفة الحادث بأنه "خطير للغاية ذو عواقب عالمية". وفي وقت سابق، أفاد الحوثيون عبر بيان استهداف جميع أنواع السفن التي تحمل علم إسرائيل، وتلك التي تقوم بتشغيلها شركات إسرائيلية والتي تعود ملكيتها لشركات إسرائيلية.
- في اليوم التالي قالت الحكومة اليابانية إن السفينة جالاكسي تعرضت لهجوم، وأكد ممثل الحكومة اليابانية، كبير أمناء مجلس الوزراء هيروكازو ماتسونو، الاستيلاء على سفينة Galaxy Leader التي تديرها شركة Nippon Yusen، وأدان الهجوم بشدة. مطالباً السلطات السعودية والعمانية والإيرانية بسرعة الإفراج عن السفينة وطاقمها[13].
- في 23 نوفمبر، أعلن متحدث باسم الحوثيين إطلاق دفعة من الصواريخ المجنحة تجاه مواقع عسكرية في إيلات الإسرائيلية، في حين قال جيش الاحتلال الإسرائيلي إنه اعترض صاروخ كروز تم إطلاقه باتجاه المدينة، وفي وقت سابق دوّت صافرات الإنذار في إيلات، بعد الاشتباه في تسلل طائرة مسيرة.
الأمن البحري في الاستراتيجية الإسرائيلية
تجدر الإشارة هنا إلى أن الاهتمام الاستراتيجي الإسرائيلي بالبحار تعود جذوره إلى الأفكار الأولى لثقافة البحر الصهيونية التي بدأت تتبلور في السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانت هذه الأفكار التي اقترحتها لجنة المياه التي تأسست في (يافا)، وعملت بين عامي 1919 و 1921، بدأها "مئير جورفيتز" الذي كان نشطاً جداً في نشر وتعزيز رؤيته البحرية، وكانت لجنة جورفيتز أول هيئة حاولت تقديم خطة صهيونية شاملة فيما يتعلق بالمهن البحرية، بهدف ترسيخ ثقافة بحرية صهيونية مستقلة، ومع تطور أعداد اليهود قبل احتلال الأراضي الفلسطينية، تشكل منظور جديد بحيث يكون المشروع الصهيوني للاحتلال من الشرق إلى الغرب نحو البحر [14].
ومنذ العام 1950، وضع بن غوريون نصب عينيه ضرورة سيطرة إسرائيل على البحرين المتوسط والأحمر. وفي محاضرة ألقاها أمام خريجي الفوج الأول من ضباط البحرية الإسرائيلية في العام 1950، استعان بدراسة تاريخيَّة أشار فيها إلى أنَّ اليهود لم يسيطروا يوماً على شواطئ هذين البحرين منذ "خروج موسى من مصر"، (وفق الأسطورة اليهودية)، مروراً بعصر الملك سليمان، وحتى مملكة "الحشمونائيم"، مُؤكداً أمام الخريجين الضباط إن أول سلطة سياسية في التاريخ اليهودي على هذين البحرين معاً، وعلى خطوط الملاحة البحرية فيهما، هي سلطة إسرائيل الحالية، ويرى في ذلك تحقيقاً لوعد الله إلى موسى بقوله: "وليكن ملكك من البحر الأحمر حتى بحر الفلسطينيين"، ويخلص إلى أن "حقيقة الاستيطان اليهودي على شواطئ هذين البحرين في العصر الحديث هي لحظة فارقة، ولها أهمية اقتصادية وسياسية واستراتيجية، فالبحر ليس صحراء مائية، ولكنه كنز مكتمل"[15].
وفي العام 2015 نشر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية غادي ايزنكوت وثيقة بعنوان "استراتيجية الجيش الإسرائيلي"، تضمنت العقيدة الأمنية لإسرائيل والبيئة الأمنية التي تحيط بها، والتهديدات التي تواجهها وكيفية التعامل معها، وعدّها محللون عسكريون إسرائيليون "معلم من تاريخ الأمن القومي لدولة إسرائيل"، وقد أشارت هذه الاستراتيجية إلى عامل التفوق البحري، ضمن عوامل تفوق أخرى كالمناورة البرية والتفوق الجوي وتعزيز البعد السيبراني، باعتبارها متطلبات أساسية، لزيادة فعالية العمليات العسكرية[16].
وفي أبريل/نيسان 2017، أصدر مركز حيفا للبحوث السياسية والاستراتيجية البحرية دراسة للجنرال عود غورلافي، عن الاستراتيجية البحرية الكلية لإسرائيل، تناول فيها الاستراتيجيات البحرية لعدد من دول العالم، باحثاً عن المشترك بين هذه الاستراتيجيات، ليستنتج أن إسرائيل تحتاج إلى استراتيجية بحرية عامة، تتناسب مع وضعها وظروفها الجيو-استراتيجية والأمنية الحساسة في الشرق الأوسط، ويقرر أن "الموقع الخاص بإسرائيل بين البحار والقارات خلق لها وظيفة خاصة بين الأمم". ومع أن الموقع لم يتغير، من وجهة نظره، لكن المحيط الجيو-استراتيجي تغير كثيراً مع الأيام، الأمر الذي يلزمها -إسرائيل- بتعزيز أمنها القومي واقتصادها. من هنا، يرى المؤلف أن النموذج المناسب لـ"إسرائيل"، هو نموذج "استراتيجية المشاركة"، وفي أوقات أخرى، قد تضطر إلى تبني استراتيجية دفاعية أيضاً، بمعنى خلق أمر واقع لا تسمح بتغييره.[17]
وتزايدت الأهمية الاستراتيجية للمناطق البحرية بالنسبة للأمن القومي لإسرائيل، وبحسب تقرير التقييم الاستراتيجي البحري الإسرائيلي الصادر عن "مركز أبحاث حيفا للسياسة والاستراتيجية البحرية" في العام 2016، فقد برزت جملة من الاعتبارات والمحددات التي تحكم أهمية تلك المناطق بالنسبة لتل أبيب، أولها العنصر البحري كجزء من التهديد العام لإسرائيل[18]. وتمثل الواردات والصادرات من وإلى آسيا نحو ربع إجمالي حجم التجارة الخارجية لإسرائيل، ومعظم السفن الإسرائيلية التي تلعب دوراً في هذه التجارة تمر عبر ممرات البحر الأحمر – الأمر الذي يجعل من تأمين هذه المنطقة مسألة أمن قومي بالنسبة لإسرائيل التي أخذت تضغط على حلفائها الدوليين لحماية مضيق باب المندب، ولجأت إلى تحسين علاقاتها الإقليمية التي أفضت نهاية المطاف إلى توقيعها اتفاقيات أبراهام مع الإمارات والبحرين في عام 2020. وفي وقت لاحق، شاركت إسرائيل بمناورات بحرية في البحر الأحمر، إلى جانب القوات البحرية الأمريكية والإماراتية والبحرينية، علماً أن إسرائيل بدأت في إقامة علاقات وثيقة مع الإمارات خصوصاً بعد أن رسخت الاخيرة موطئ قدم لها على سواحل عدة بلدان منها جيبوتي وإريتريا وأرض الصومال إلى جانب جزيرتي ميون وسقطرى باليمن. ويستبعد خبراء ومحللون أن تنتهي المخاوف الإسرائيلية بشأن التهديدات المنبعثة من اليمن بإبرام تسوية نهائية تضع حد للحرب اليمنية[19].
وبالنظر إلى تلك التهديدات والمخاوف الإسرائيلية إزاءها، فقد طورت إسرائيل سياستها العسكرية البحرية لمواجهة التهديدات، وفقًا لعدد من ركائز الحركة، شملت التنسيق العملياتي مع القيادة المركزية الأمريكية وتأمين الدعم اللازم، خاصة وأن التهديدات البحرية تتجاوز قدرات إسرائيل البحرية المستقلة، حيث قررت تل أبيب تكثيف تعاونها مع الأسطول الخامس الأمريكي والقيادة المركزية، واتجهت إلى تعزيز علاقاتها مع الجيش الأمريكي في يناير/كانون ثان 2021، وكانت الإدارة الأمريكية قررت نقل إسرائيل من القيادة الأوروبية (EUCOM) إلى القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، والتي من الناحية الجغرافية ستجعل المصالح الإسرائيلية في الشرق الأوسط ومناطقها البحرية أكثر ارتباطًا بالاستراتيجية العسكرية الأمريكية.[20] وهذا سيكون أحد عوامل التصعيد، سيما مع تأكيد واشنطن على دعمها غير المحدود لإسرائيل.
خاتمة
أخذت التطورات السياسية والعسكرية المحلية والإقليمية في المناطق المحيطة بالبحر الأحمر تُلقي بظلالها على مدخله الجنوبي في مضيق باب المندب، بدأ التصعيد في العامين الماضيين مرتبطاً بالحرب الراهنة في اليمن، غير أن مؤشرات التصعيد زادت وتيرتها في الأسابيع الماضية بسبب الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي.
وتتعزز المخاوف من أن يشمل التصعيد منطقة مضيق باب المندب، الممر الاستراتيجي الدولي الأكثر أهمية، خاصة وأن ثمة قوى عالمية كبرى بدأت في السنوات الأخيرة تتنافس على النفوذ في هذه المنقطة الاستراتيجية، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية الحليف والداعم الأبرز لإسرائيل، وفي المقابل يمتلك الخصوم والمنافسون لواشنطن قواعد عسكرية في المنطقة ذاتها، وعلى رأسها الصين وإيران التي تستخدم وكلاءها الحوثيين في تحقيق أهدافها في التنافس والبحث عن موطئ قدم، الأمر الذي يشي أن احتمالات التصعيد تظل ورادة، بسبب التنافس والصراع، مضافاً إليها الحرب التي تشهدها غزة منذ نحو شهرين.
المراجع
[1] أحمد الديب، إسرائيل والأمن الملاحي في منطقة البحر الأحمر، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، مارس 2023، على الرابط: https://cutt.us/KIOEq .
[2] المرجع نفسه.
[3] عبد الزهرة شلش العتابي، الجغرافيا السياسية لمضيق باب المندب، مجلة كلية التربية الأساسية جامعة المستنصرية، ملحق العدد 52، 2008، ص: 209.
[4] شيماء منير، هل يشكل الحوثيون رقماً مهماً في معادلة طوفان الأقصى، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، نوفمبر 2023، على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/21041.aspx .
[5] توقيع ميثاق مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، سي ان ان عربية، يناير 2020، على الرابط: https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2020/01/06/saudi-arabic-arab-and-african-council-red-sea-and-gulf-aden .
[6] المرجع نفسه.
[7] فؤاد مسعد، القوى الإقليمية والدولية في باب المندب، عوامل التنافس وتداعيات الصراع، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، أغسطس 2023، صـ 12.
[8] قوة المهام المشتركة 153، المعرفة، على الرابط:https://www.marefa.org/%D9%82%D9%88%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D9%83%D8%A9_153.
[9] علي الذهب، التنافس الإقليمي والدولي في البحر الأحمر وتداعياته، الجزيرة نت، أكتوبر 2022، على الرابط: https://studies.aljazeera.net/ar/article/5484 .
[10] قوة المهام المشتركة، مرجع سابق.
[11] إكرام زيادة، أهمية باب المندب والقرن الأفريقي خلال النزاعات والحروب الدولية، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، أكتوبر 2023، على الرابط: . https://www.europarabct.com/?p=91675
[12] ناشط سياسي: غداً سنرى حرب غزة في مضيق باب المندب، موقع عدن الغد، 6 نوفمبر 2023، على الرابط: https://adengad.net/posts/709842 .
[13] Houthis confirm seizure of Galaxy Leader ship in Red Sea. Nov, 2023. Available at:
https://southfront.press/houthis-confirm-seizure-of-galaxy-leader-ship-in-red-sea/ .
[14] مهاب عادل حسن: متغير الأمن البحري في السياسة العسكرية الإسرائيلية تجاه البحر الأحمر وشرق المتوسط، دورية الملف المصري، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام)، العدد 106، يونيو 2023، صـ19.
[15] استراتيجية إسرائيل البحرية شرق البحر المتوسط، بوابة الشرق الأوسط الجديدة، سبتمبر 2020، على الرابط: https://cutt.us/Tina6 .
[16] متغير الأمن البحري، مرجع سابق، صـ20.
[17] استراتيجية إسرائيل البحرية، مرجع سابق.
[18] متغير الأمن البحري في السياسة الإسرائيلية، مرجع سابق.
[19] إسرائيل والأمن الملاحي في منطقة البحر الأحمر، مرجع سابق.
[20] متغير الأمن البحري في السياسة الإسرائيلية، مرجع سابق.