تداعيات سك الحوثيين لعملة معدنية على الاقتصاد والسلام في اليمن
مقدمة
في تطور لافت أعلنت الجماعة الحوثية في نهاية شهر مارس 2024 عن إنزال عملة معدنية جديدة من فئة المائة ريال، وبررت سك هذه العملة بالحاجة إلى تعويض الأوراق النقدية التالفة. وأثارت هذه الخطوة غير التقليدية جدلا واسعاً بشأن نتائجها الاقتصادية وإمكانية تسببها بمزيد من التدهور للوضع الاقتصادي الهش في البلاد. لكن عواقب هذه الخطوة الحوثية تُعد مناورة متعددة الأوجه ولا تعكس فقط محاولة عملية للتغلب على معضلة تلف الأوراق النقدية، وعواقبها تمتد إلى ما هو أبعد من الشأن الاقتصادي، ولها أبعادها وأهدافها السياسية، ولها تداعيات وخيمة محتملة على المشهد السياسي وتفاعلاته، بما في ذلك على عملية السلام.
الدلالات والأبعاد
إن إقدام الحوثيين على هذه الخطوة من طرف واحد دون التشاور أو التنسيق مع الحكومة اليمنية والبنك المركزي في عدن إنما يسلط الضوء على الانقسامات العميقة التي يعاني منها المشهد السياسي، وعلى الديناميات المعقدة للصراع المستمر في البلاد والطبيعة المتطورة لهذا لصراع. من جهة أخرى، تعكس هذه الخطوة ديناميكيات القوة والسيطرة الاقتصادية المضطربة، وتشير إلى مدى تعقيد الوضع الاقتصادي والمالي وانقسامه العميق، وتسلط الضوء على تعقيد عملية صنع السياسات الاقتصادية، والتحديات المعقدة التي تواجه الحوكمة المالية في اليمن. وفي دلالة مهمة تعكس ما سبق وتوضحه، يشير هذا التطور إلى استعداد الجماعة للانخراط في أنشطة اقتصادية وتبني قرارات وخطوات من طرف واحد لا تتحدى فقط النظام المالي القائم وإنما تربك المشهد السياسي وتزيده تعقيداً.
ولا جدال أن قيام الحوثيين بسك عملة معدنية يخدم غرضا عمليا، أي معالجة النقص الحاد في العملة الصالحة للاستخدام، لكن في الوضع اليمني يصعب فصل الإجراءات الاقتصادية عن النوايا والعواقب السياسية، وهؤلاء لم يقوموا بخطوتهم هذه مدفوعين بحسن النوايا وبالرغبة في معالجة قضية العملة التالفة فقط، ولا حتى من باب التأكيد الرمزي على سيطرتهم على القطاع المالي والاقتصادي، وسك عملة على هذا النحو الذي يتجاوز الأطر القانونية المعنية بالقيام بذلك هو خطوة مسيسة بامتياز ويراد منها تحقيق أهداف سياسية، وما يعطي هذا الاستنتاج معقولية أن هناك حلولاً بديلة ومسالمة كان يمكن للحوثيين اللجوء إليها لمعالجة مشكلة تلف العملة، إذ كان بمقدورهم بالتوافق مع الحكومة أو بدونه السماح بتداول العملة الجديدة الصادرة عن البنك المركزي في عدن من ذات الفئات (فئات 100 و 200 ريال)، ودون أن يؤدي ذلك إلى أي عواقب سلبية على الاقتصاد كما يؤكد خبراء اقتصاديون. أما من جهة أخرى، فالحوثيون لن يفوتوا حقيقة أن القيام بإجراءات أحادية كهذه تتحدى البنك المركزي في عدن والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً ستمر بدون عواقب وبدون أن تتسبب بإشكالات قانونية واقتصادية وسياسية، ولن يفوتوا حقيقة أن خصومهم على الأقل سيقومون باستغلالها ضدهم محلياً ودولياً، خصوصاً وهم يخوضون اليوم مواجهة مع الدول الغربية. والأهم من هذا وذاك أن ما صدر عن الجماعة وقياداتها بعد الإعلان عن إنزال هذه العملة للتداول يتحدث صراحة عن أهداف سياسية، كما سنرى تالياً.
هناك قائمة من الأهداف السياسية المحتملة التي يسعى الحوثيون إلى تحقيقها، وتشمل إظهار سيطرتهم الفعلية على مختلف مناحي الحياة وتأكيد شرعية سلطتهم وتعزيز الشعور العام المحلي والخارجي بهذه الشرعية. والمقابل المنطقي لهذا الهدف هو إظهار ضعف الحكومة المعترف بها دوليا وتقويض شرعيتها، فهم يتصورون أنها (الحكومة) لن تكون قادرة على فعل شيء إزاء هذه الخطوة، وهو ما سيُظهر عجزها ويُضعف موقفها. وبقدر رغبتهم في تكريس الأمر الواقع الذي يمثلونه وتمثله سلطتهم باتجاه إقناع الداخل والخارج بقبول التعامل معها بصفتها السلطة المعقولة الوحيدة ذات التأثير، مازال قيامهم بخطوة كهذه يُشكِل طريقة لاختبار قضايا ومواقف كثيرة، ولجس نبض ردود أفعال وإرادات وقدرات الأطراف الأخرى، بما فيها الحكومة وحلفائها والقوى والمؤسسات المالية الدولية، واختبار للحد الذي يمكنهم الذهاب إليه في القيام بما يريدون القيام به. وقد يشير تطور كهذا إلى موقف مستهين أو غير مبال بعملية السلام، فسك عملة على هذا النحو قد يتسبب بإلحاق أضرار بهذه العملية، لكن الحوثيون كما تقول تصريحاتهم يرغبون في دفع عملية السلام المتوقفة، فقد صرح محافظ "البنك المركزي" التابع للجماعة أن من المفترض أن يسهم إصدار العملة المعدنية في تعجيل التوقيع على خارطة الطريق، وهدد باتخاذ خطوات إضافية "اذا ما واصلت السعودية المماطلة"، هدف كهذا يختلط بهدف آخر هو الضغط للحصول على تنازلات جديدة.
التداعيات: المخاطر ة بعودة الصراع وتعطيل السلام
تعد هذه الخطوة من قبل الجماعة الحوثية وصفة مثالية لعودة التوترات بكل أنواعها إلى المشهد اليمني ولتعميق انقساماته، وستتسبب بتعقيدات إضافية للجهود الرامية إلى التوصل إلى حل سلمي للصراع في البلاد. فإذا كان إصدار العملة وتنظيم السياسة النقدية امتياز تختص به السلطة الشرعية المعترف بها ممثلة في البنك المركزي في عدن، فطباعة العملة بأي نوع وبأي قدر من قبل كيان غير مخول مثل جماعة الحوثي ينتهك هذا الإطار القانوني ويتجاوزا سلطة البنك المركزي والحكومة اليمنية ويتحداهما ولا ينتقص فقط من شرعيتهما ولكنه أيضا يدفع لتقويضها وتقويض الثقة بهما.
وهناك مخاوف مشروعة بشأن تأثير هذه الخطوة على الاقتصاد الكلي بما قد تتسبب به من ضغوط تضخمية ومن تهديد للاستقرار المالي ولقيمة الريال اليمني، فبالإضافة إلى حالة الهلع وعدم اليقين التي يثيرها إنزال نقود جديدة في السوق ولدى الشركات والمؤسسات التجارية والاستثمارية، لم تصرح الجماعة بحجم ما قامت بإصداره من عملة. ومع أن مسؤولي صنعاء يقولون إنه سيتم ضخ العملة الجديدة بمقدار العملة التالفة التي سيتم سحبها من السوق فقط، إلا أن ما من ضمانة على أن هذا ما سيحدث، ولمح النائب البرلماني أحمد سيف حاشد إلى أن هناك عملة معدنية جاهزة من فئتين قيد انتظار نزولها إلى السوق. وكما سلفت الإشارة، فهذه الخطوة غير التقليدية من قبل الجماعة تستهدف جس نبض الأطراف الأخرى وردود أفعالها، ومرورها دون رد فعل قوي سيشجعها على أن تكون أكثر جرأة وقد يفتح شهيتها إلى مزيد من الطباعة، وسيكون أي تدهور يلحق الاستقرار المالي والنقدي فشلا للحكومة والبنك المركزي بصفتهما المسؤولان عن الوضع الاقتصادي في نهاية المطاف. ومن جهتها ستجد الحكومة في الحاصل فرصة ثمينة يصعب تفويت استغلالها ضد الجماعة الحوثية. ولذلك كله ما كان يتوقع أن تبدي موقفاً متساهلاً.
لا يدشن هذا التطور فصلاً جديدا من حرب العملة بين الحوثيين والحكومة اليمنية فقط، بل يفتح الباب لأخطر فصول الحرب الاقتصادية الأشمل التي يخوضها الطرفان منذ نهاية 2022 على الأقل، عندما استطاع الحوثيون وقف صادرات النفط من مناطق سيطرة الحكومة بعد استهدافهم موانئ التصدير وتهديدهم للسفن والشركات المستوردة والناقلة، وعندما منعوا دخول وبيع الغاز المنتج في مناطق سيطرة الحكومة في مناطق سيطرتهم. وقد تبنى البنك المركزي التابع للحكومة الشرعية موقفا حازما ومعارضاً بشدة لهذا الإجراء، ووصفه بالتصعيد الخطير وغير القانوني، ووصف العملة المسكوكة بالمزورة والصادرة عن كيان غير شرعي، وحذر من تداولها. كما اصدر البنك قرارا بنقل المراكز الرئيسية للبنوك التجارية والمصارف الإسلامية وبنوك التمويل الأصغر من مدينة صنعاء الى عدن، وأمهل هذه البنوك 60 يوما للتنفيذ، وحذر أنه سيتم التعامل مع تلك التي لا تلتزم بهذا القرار وفقا لأحكام قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. أربك قرار نقل مقرات البنوك الجماعة الحوثية، فهو يهدد بسحب البساط من تحت أقدامها، فاتهمت الحكومة اليمنية بالتصعيد وهددت بالرد على إجراءاتها، وطالبت الرياض بالتدخل. وهكذا فعدم الوصول إلى تهدئة وحلول للوضع الناتج عن هذا الإجراء الحوثي وما تسبب به من تعقيدات ومواقف ينذر بتصعيد أكبر. وفيما لمح محافظ بنك صنعاء إلى احتمالية طباعة عملة ورقية-مثلاً- أكد محافظ البنك المركزي في عدن أن مازال هناك إجراءات وخطوات مؤثرة واكثر فاعلية من الخطوات التي تم اتخاذها حتى الآن، وأنه إذا كانت الخطوات التي تم اتخاذها تنظيمية فالخطوات القادمة ستكون عقابية واحترازية. هذا التصعيد في الحرب الاقتصادية يفتح الباب أو يجر إلى تصعيد عسكري، ولهذا الأمر بوادره، فقد عمدت الجماعة إلى التصعيد العسكري في جبهة كرش بمحافظة لحج قبل أيام، واستهدفت مدينة المخا بصاروخ باليستي، وهو تصعيد من الواضح أنها تريد من خلاله إيصال رسائل تحذيرية.
يذهب هذا التطور أبعد من تعميق الانقسام السياسي المؤقت إلى تكريس حالة من الشطير الاقتصادي والإضرار بفكرة الدولة الواحدة. فهو ينقل الصراع إلى القطاع المصرفي، ويهدد بمزيد من الانقسام النقدي وبظهور نظام نقدي مزدوج، وهناك مخاوف من أن ينتهي بتأسيس نظام عملة منفصل بحكم الأمر الواقع. وإذا كانت العملة الموحدة رمزا لسيادة الدولة، ويرتبط بها كل المعاملات والأنشطة الاقتصادية، فوجود عملتين لا يعني فقط تفتيتاً إضافياً للمشهد الاقتصادي الهش، ولكنه سيضع ألغاما في طريق توحيد الاقتصاد، وسيعد في نهاية الأمر مسمارا قويا في نعش الاقتصاد الموحد. وعدا أن إجراء حوثي كهذا قد يقوض التوجهات التي ظهرت والنقاشات التي دارات خلال العامين الماضيين حول وضع تصورات لتوحيد السياسة النقدية، فتباين العملات وزيادة الانقسام المصرفي سيتسبب بتحديات تشغيلية ويضفي الكثير من التعقيد على المعاملات التجارية على العلاقة بين المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وبقية البلاد.
وعدا عن أنه يعرقل التوصل إلى سياسات اقتصادية موحدة لازمة لحل النزاعات والمصالحة الوطنية، يأتي هذا الإجراء الحوثي في توقيت حساس بالنسبة لعملية السلام، وما سيتسبب به من تفاقم للحرب الاقتصادية ومن زيادة للتوتر والانقسامات السياسية، وعودة للمواجهات العسكري، سينعكس بطبيعة الحال سلباً على هذه العملية ويهدد بتوقفها وبعودتها إلى المربع الأول. من المهم في هذا السياق الإشارة إلى أن الحوثيين اتهموا الحكومة اليمنية بالتصعيد وبمحاولة الهروب من استحقاقات السلام وتخريب خارطة الطريق، وإلى تلويح نائب وزير خارجية الحوثيين حسين العزي بالتراجع عما توصلت إليه المشاورات مع السعودية إذا لم تتدخل لوقف الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي في عدن.
في تداعياته على طرفي الصراع، يصب هذا التطور في صالح الحكومة اليمنية، ويضر بموقف الجماعة الحوثية وإن قدرت هذه أنها ستكسب من وراءه أو تحقق بعض الأهداف، فقد كان له وقع غير جيد لدى المجتمع الدولي، ووفقا لمحافظ البنك المركزي في عدن لم يتم اتخاذ أي خطوات ضد الحوثيين في السابق وأرجئت إجراءات كان يُنتوى اتخاذها ضدهم وذلك بطلب من المجتمع الدولي، لكن المجتمع الدولي نفسه وبالإضافة إلى أنه رحب أو لم يعارض قرارات البنك الأخيرة، وإن كان قد طلب فرصة للحديث مع الحوثيين، عبر عن موقف ساخط من الجماعة، فقد أدانت الولايات المتحدة عبر سفارتها في اليمن ما قامت الجماعة، ووصفت العملات التي أصدرتها بالمزيفة وقالت إن من الضروري منع دخولها إلى السوق، وأكدت على دعم الولايات المتحدة للبنك المركزي في عدن. وتبنت فرنسا عبر سفارتها نفس الموقف، ووصفت بريطانيا هذا الإجراء بالسلوك المتهور. وقالت بعثة الاتحاد الأوروبي إلى اليمن إن الإجراء الحوثي يهدد امتثال البلد بالمعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ولا تخدم قضية سلام ورخاء اليمنيين، وتعهدت بدعم البنك المركزي في عدن. تسببت هذه المواقف الغربية بردود فعل حانقة للحوثيين، فقد أعتبر بنك صنعاء ما صدر عن السفارتين الأمريكية والبريطانية تدخلاً سافراً وغيرَ مشروع في شؤون الجمهورية اليمنية، ومواصلة للحرب الاقتصادية التي تقودها دول "العدوان الأمريكي السعودي" ضد الشعب اليمني.
وبإقدامها على هذه الخطوة تكون الجماعة قد وضعت نفسها في موقف صعب، فخطوتها هذه تكرس الشكوك حول نواياها، وتكرس صورة سلبية عنها كجماعة غير معنية بالسلام وتميل دوماً للتصعيد، وقد تتسبب لها بمزيد من العزلة السياسية والمالية، وهذه العزلة ستبلغ ذروتها حال أصر البنك المركزي في عدن على نقل البنوك التجارية مقارها الرئيسية إلى عدن، خصوصاً بعد أن نقل حوالي 107 منظمة دولية (من أصل 122 منظمة) مقراتها إلى عدن خلا الفترة الماضية.
قد تجد الحكومة أيضاً نفسها في موقف حرج بسبب قرار البنك المركزي في عدن الذي يلزم البنوك بنقل مقراتها إلى عدن، إذ لن يكون من السهل تطبيق هذا القرار لأسباب عديدة، ففيه تهديد لهذه البنوك التي ينتمي أغلب عملائها وتجري أغلب تعاملاتها في مناطق سيطرة الحوثيين، ولا يتوقع من جهة أخرى أن يدعها هؤلاء تتخذ قرارها بحرية، وقد يهددونها ويلحقون بها العقاب، وقد يلجؤون إلى نهب أصولها مثلاً حال قررت الانصياع لقرار مركزي عدن. أما من جهة أخرى فالحكومة ستحتاج لتطبيق قرارها هذا إلى موقف داعم وقوي من قبل السعودية، وهذا أمر قد لا يحصل ، بل تنتقل الضغوط على الحكومة للتراجع. وسبق وتراجعت الحكومة عن قرار سابق قضى بوقف التعامل مع خمسة بنوك. وبقدر ما أن ذلك سيعد انتصاراً للحوثيين، فأي تراجع للحكومة عن هذا القرار دون الحصول على مقابل سيضعها في موقف ضعيف جداً، وستخسر الكثير من الثقة بها وبقراراتها.