عسكرة إسرائيل لباب المندب

فؤاد مسعد | 6 يناير 2024 13:28
عسكرة إسرائيل لباب المندب

 

مقدمة

أدركت إسرائيل منذ وقت مبكر أهمية الممرات المائية، فعملت على السيطرة على عدد من المنافذ والموانئ الاستراتيجية إما بالاحتلال المباشر، أو بالتنسيق والتحالف مع بعض الدول المطلة على الممرات والمنافذ البحرية الاستراتيجية، ومنها مضيق باب المندب على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.

وتنطلق إسرائيل في تحركاتها نحو المنافذ والممرات المائية من استراتيجية وضعها المؤسسون الأوائل لدولة الاحتلال، واضعة في الاعتبار أنها كيان غريب على المنطقة، يخوض صراعاً عنيفاً مع الفلسطينيين والدول العربية، وبالتالي فهي تبحث عن حلفاء تستطيع من خلالهم أن تكسر العزلة العربية المفروضة عليها، فاتجهت صوب أثيوبيا- كانت أرتيريا جزءاً منها- الواقعة في القرن الأفريقي بالقرب من مضيق باب المندب، ثم أقامت علاقات مع دول أفريقية أخرى لتحقيق الهدف ذاته، مواجهة العرب، خاصة الدول العربية المطلة على البحر الأحمر: مصر والأردن والسعودية واليمن والسودان، رغم أنها استطاعت تطبيع العلاقات رسمياً مع القاهرة وعمّان، وأخيراً مع الخرطوم.

في هذه الدراسة نحاول الوقوف على رؤية إسرائيل للأمن المائي في البحار والممرات المحيطة بها عامة، وفي جنوب البحر الأحمر وباب المندب بشكل خاص، مع تسليط الضوء على الواقع الراهن في المنطقة التي باتت تتزاحم فيها القواعد العسكرية للدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية- أكبر وأبرز حلفاء إسرائيل وداعميها، مع الإشارة إلى الظروف التي تعيشها المنطقة في ظل التصعيد الإيراني- عبر الحوثيين، والتوتر الذي بات يسيطر على أهم ممرات الملاحة والتجارة الدولية في باب المندب.

 

البحر الأحمر: الأهمية الاستراتيجية والرؤية الإسرائيلية

يربط البحر الأحمر بين بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، لذلك فإنه يستمد أهميته الإستراتيجية والجيوسياسية من موقعه الجغرافي الفريد، كما أنه يتاخم منابع النفط الرئيسة في العالم، ويعدّ واحدا من أهم طرق الملاحة الرئيسة في العالم، ويعدّ الطريق الرئيس الذي يمر من خلاله نفط الخليج العربي وإيران إلى الأسواق العالمية في أوروبا، إذ تحتاج أوروبا إلى نقل 60% من احتياجاتها من الطاقة عبره، بينما تنقل من خلاله نحو 25% من احتياجات النفط للولايات المتحدة الأميركية.[1]

يبلغ طول البحر الأحمر 1900 كيلو متر، فيما يتراوح العرض بين 20 كيلو متر (عند مضيق باب المندب)، و200 كيلو متر، ويطل على 7 دول عربية هي: اليمن والسعودية ومصر والأردن والسودان وجيبوتي والصومال، بالإضافة إلى أرتيريا وإسرائيل التي ترى في البحر الأحمر جزءاً من أمنها القومي، كما أنه المنفذ الوحيد لإسرائيل على آسيا وأفريقيا.

ومنذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 أصبح البحر الأحمر جزءاً من الصراع العربي- الإسرائيلي، حيث بدأ التنافس على السيطرة بين إسرائيل والدول العربية المطلة على البحر الأحمر، ففي مارس/أذار 1949 احتلت القوات الإسرائيلية قرية أم الرشراش وبنت عليها ميناء إيلات، لترسخ لها موطئ قدم في خليج العقبة، ورداً على ذلك تعاونت مصر والسعودية عام 1950 من أجل إخضاع جزيرتي تيران وصنافير – الواقعتين على مضيق تيران عند مدخل خليج العقبة – تحت سيطرة مصر العسكرية. واتخذت مصر في أوائل الخمسينيات سلسلة من الإجراءات بهدف منع عبور سفن الشحن الإسرائيلية عبر خليج العقبة، الأمر الذي أدى إلى قطع روابط إسرائيل مع الأسواق الآسيوية والأفريقية[2].

مطلع الستينيات دعمت جمهورية مصر بقيادة جمال عبدالناصر الثورة اليمنية التي قامت في سبتمبر/أيلول 1962، وتمكّنت القوات البحرية المصرية من الوصول إلى سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر. وزاد الاهتمام بجنوب البحر الأحمر خلال اجتماعات جامعة الدول العربية، مع إبداء كل من الجمهورية العربية اليمنية في صنعاء (اليمن الشمالي) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في عدن (اليمن الجنوبي) مخاوف بشأن أنشطة إسرائيلية في البحر الأحمر. وكانت وزارة الخارجية المصرية قد حصلت على تقارير استخباراتية حول الأنشطة الإسرائيلية في الممر البحري، وكان إغلاق مصر لمضيق تيران في مايو/أيار 1967، أمام حركة الملاحة الإسرائيلية ومنع السفن من العبور نحو ميناء إيلات الإسرائيلي أحد أبرز أسباب الحرب الإسرائيلية على مصر في يونيو/حزيران 1967 [3].

ومع أطماعها ومحاولاتها للسيطرة على البحر الأحمر والمعلومات عن إقامة قاعدة في "دهلك" بإريتريا، تستفيد إسرائيل من علاقتها بالولايات المتحدة وسردية محاربة الإرهاب والقرصنة، وهي تسوّق أهدافها بالدعوة إلى أن يكون البحر الأحمر ممرا مائيا دوليا يجب أن يظل مفتوحا لسفن الدول جميعا بما فيها إسرائيل، ولا حق للدول العربية في السيطرة عليه، أو تقييد حرية الملاحة فيه[4].

 

الأمن البحري في الاستراتيجية الإسرائيلية

بدأ اهتمام مؤسسي دولة إسرائيل بالبحار منذ وقت مبكر، حتى قبل إعلان دولتهم على أرض فلسطين في العام 1948، وتعود جذور الرؤية الإسرائيلية إلى الأفكار الأولى لثقافة البحر الصهيونية التي تبلورت بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً بين عامي 1919 و1921 حينما تأسست لجنة المياه في يافا برئاسة مئير جورفيتز، وهي أول هيئة حاولت تقديم خطة صهيونية شاملة فيما يتعلق بالمهن البحرية، بهدف ترسيخ ثقافة بحرية صهيونية مستقلة. وبعدما زادت أعداد اليهود في الأراضي الفلسطينية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، تبلور منظورٌ صهيوني جديدٌ، يقوم على فكرة الاحتلال من الشرق إلى الغرب نحو البحر، وزادت أهمية الساحل، وفي هذا السياق قال "بن جوريون"، أول رئيس وزراء لإسرائيل، وأحد أبر مؤسسيها: "لا أرض لإسرائيل بدون بحر إسرائيل"، ثم بلغ الاهتمام الصهيوني الرسمي بالبحر ذروته في العام 1930[5].

ومنذ العام 1950، وضع بن غوريون نصب عينيه ضرورة سيطرة إسرائيل على البحرين المتوسط والأحمر. وفي محاضرة ألقاها أمام خريجي الفوج الأول من ضباط البحرية الإسرائيلية في العام 1950، استعان بدراسة تاريخيَّة أشار فيها إلى أنَّ اليهود لم يسيطروا يوماً على شواطئ هذين البحرين منذ "خروج موسى من مصر"، (وفق الأسطورة اليهودية)، مروراً بعصر الملك سليمان، وحتى مملكة "الحشمونائيم"، مُؤكداً أمام الخريجين الضباط إن أول سلطة سياسية في التاريخ اليهودي على هذين البحرين معاً، وعلى خطوط الملاحة البحرية فيهما، هي سلطة إسرائيل الحالية، ويرى في ذلك تحقيقاً لوعد الله إلى موسى بقوله: "وليكن ملكك من البحر الأحمر حتى بحر الفلسطينيين"، ويستمد فكرته من بعض نصوص العهد القديم، منها ما ورد في الإصحاح التاسع في سفر الملوك الأول: "وبنى الملك سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب إيلة عند شاطئ البحر الأحمر في أرض أدوم، فأرسل حيرام ملاحين عارفين بشؤون البحر ليعملوا في السفن مع رجال سليمان". ويخلص إلى أن "حقيقة الاستيطان اليهودي على شواطئ هذين البحرين في العصر الحديث هي لحظة فارقة، ولها أهمية اقتصادية وسياسية واستراتيجية، فالبحر ليس صحراء مائية، ولكنه كنز مكتمل"[6].

وفي العام 2015 نشر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية غادي ايزنكوت وثيقة بعنوان "استراتيجية الجيش الإسرائيلي"، تضمنت العقيدة الأمنية لإسرائيل والبيئة الأمنية التي تحيط بها، والتهديدات التي تواجهها وكيفية التعامل معها، وعدّها محللون عسكريون إسرائيليون "معلم من تاريخ الأمن القومي لدولة إسرائيل"، وقد أشارت هذه الاستراتيجية إلى عامل التفوق البحري، ضمن عوامل تفوق أخرى كالمناورة البرية والتفوق الجوي وتعزيز البعد السيبراني، باعتبارها متطلبات أساسية، لزيادة فعالية العمليات العسكرية[7].

تزايدت الأهمية الاستراتيجية للمناطق البحرية بالنسبة لأمن إسرائيل، وبحسب تقرير التقييم الاستراتيجي البحري الإسرائيلي الذي صدر في العام 2016، عن "مركز أبحاث حيفا للسياسة والاستراتيجية البحرية"، فقد برزت جملة من الاعتبارات والمحددات التي تحكم أهمية تلك المناطق بالنسبة لتل أبيب، أولها العنصر البحري كجزء من التهديد العام لإسرائيل[8].

وفي العام 2017، أصدر مركز حيفا للبحوث السياسية والاستراتيجية البحرية دراسة للجنرال عود غورلافي، عن الاستراتيجية البحرية الكلية لإسرائيل، وتناول فيها الاستراتيجيات البحرية لعدد من دول العالم، باحثاً عن المشترك بين هذه الاستراتيجيات، ليستنتج أن إسرائيل تحتاج إلى استراتيجية بحرية عامة، تتناسب مع وضعها وظروفها الجيو-استراتيجية والأمنية الحساسة في الشرق الأوسط، ويقرر أن "الموقع الخاص بإسرائيل بين البحار والقارات خلق لها وظيفة خاصة بين الأمم". ومع أن الموقع لم يتغير، من وجهة نظره، لكن المحيط الجيو-استراتيجي تغير كثيراً مع الأيام، الأمر الذي يلزمها -إسرائيل- بتعزيز أمنها القومي واقتصادها. من هنا، يرى المؤلف أن النموذج المناسب لـ"إسرائيل"، هو نموذج "استراتيجية المشاركة"، وفي أوقات أخرى، قد تضطر إلى تبني استراتيجية دفاعية أيضاً، بمعنى خلق أمر واقع لا تسمح بتغييره.[9]

وقد وجدت إسرائيل مجالاً حيوياً في البحر الأحمر، فأسست وجوداً عسكرياً وأمنياً كما طورت علاقاتها السياسية مع بعض أنظمة المنطقة، وخاصة النظام الإريتري والأوغندي كي يتيح لها كسر دائرة العزلة العربية، ورصد أي نشاط عسكري عربي ضدها، ومواجهة الحصار العربي مستقبلاً ضدها وضد سفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي في باب المندب؛ وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط، والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً. ومنذ عام 2016، أنشأت إسرائيل سراً قاعدة استخبارات إلكترونية متقدمة في إريتريا لمراقبة مضيق باب المندب الاستراتيجي[10].

وتمثل الواردات والصادرات من وإلى آسيا نحو ربع إجمالي حجم التجارة الخارجية لإسرائيل، ومعظم السفن الإسرائيلية التي تلعب دوراً في هذه التجارة تمر عبر ممرات البحر الأحمر – الأمر الذي يجعل من تأمين هذه المنطقة مسألة أمن قومي بالنسبة لإسرائيل التي أخذت تضغط على حلفائها الدوليين لحماية مضيق باب المندب، ولجأت إلى تحسين علاقاتها الإقليمية التي أفضت في نهاية المطاف إلى توقيعها اتفاقيات أبراهام مع الإمارات والبحرين في عام 2020. وفي وقت لاحق، شاركت إسرائيل بمناورات بحرية في البحر الأحمر، إلى جانب القوات البحرية الأمريكية والإماراتية والبحرينية، علماً أن إسرائيل بدأت في إقامة علاقات وثيقة مع الإمارات خصوصاً بعد أن رسخت الأخيرة موطئ قدم لها على سواحل عدة بلدان منها جيبوتي وإريتريا وأرض الصومال إلى جانب جزيرتي ميون وسقطرى باليمن. ويستبعد خبراء ومحللون أن تنتهي المخاوف الإسرائيلية بشأن التهديدات المنبعثة من اليمن بإبرام تسوية نهائية تضع حداً للحرب اليمنية[11].

وبالنظر إلى تلك التهديدات والمخاوف الإسرائيلية إزاءها، فقد طورت إسرائيل سياستها العسكرية البحرية لمواجهة التهديدات، وفقًا لعدد من ركائز الحركة، شملت التنسيق العملياتي مع القيادة المركزية الأمريكية وتأمين الدعم اللازم، خاصة وأن التهديدات البحرية تتجاوز قدرات إسرائيل البحرية المستقلة، حيث قررت تل أبيب تكثيف تعاونها مع الأسطول الخامس الأمريكي والقيادة المركزية، واتجهت إلى تعزيز علاقاتها مع الجيش الأمريكي في يناير/كانون ثان 2021، وكانت الإدارة الأمريكية قررت نقل إسرائيل من القيادة الأوروبية (EUCOM) إلى القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، والتي من الناحية الجغرافية ستجعل المصالح الإسرائيلية في الشرق الأوسط ومناطقها البحرية أكثر ارتباطًا بالاستراتيجية العسكرية الأمريكية.[12]

 

تحركات إسرائيلية في باب المندب

لم تكتفِ إسرائيل باجتراح النظريات والرؤى الاستراتيجية تجاه الأمن البحري، بل إنها سعت لتحقيق أمنها البحري، سيما في البحر الأحمر، تحديداً في مدخله الجنوبي حيث يوجد الممر الاستراتيجي الأكثر أهمية، وهو مضيق باب المندب، الذي أثبتت حروب إسرائيل مع العرب أهميته. ففي حرب يونيو/حزيران 1967 كان من أسباب التفوق الإسرائيلي قيام حليفتها بريطانيا التي كانت تحتل جنوب اليمن، بالسيطرة على مضيق باب المندب، وفي المقابل كان من أسباب التفوق المصري العربي ضد إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين 1973، قيام الحكومتين اليمنية والمصرية بإغلاق مضيق باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية[13].

لم يمض على حرب 1967 سوى بضعة أشهر حتى أجبرت الثورة اليمنية بريطانيا على إنهاء احتلالها للجنوب اليمني، وإعلان الاستقلال، وقبل مغادرتها حاولت بريطانيا إبقاء باب المندب تحت سيطرتها- بطلب من الحكومة الإسرائيلية لكن ضغوط الثوار اليمنيين ودعم الدول العربية في الأمم المتحدة حالا دون ذلك، فسعت إسرائيل إلى وضع جزيرة بريم التي تسيطر على باب المندب تحت إدارة دولية، وهي الجهود التي باءت بالفشل، وكانت حجة تل أبيب في ذلك الوقت أن الملاحة الدولية في باب المندب سوف تتعرض للخطر بعد رحيل القوات البريطانية.

إسرائيل التي أدركت مبكراً أنها ستكون معزولة وسط مقاطعة الدول العربية، بدأت تبحث لها عن حلفاء في المنطقة، فكانت أثيوبيا في عهد الامبراطور الأسبق هيلاسيلاسي أول وأبرز حلفاء تل أبيب، فهي دولة غير عربية وتطل على البحر الأحمر، وبإمكان العلاقة معها أن تفيد إسرائيل كثيراً، سيما مع استمرار الصراع العربي- الإسرائيلي.

استمرت العلاقات القوية بين إسرائيل وأثيوبيا حتى بدأت مؤشرات الثورة في إقليم أرتيريا الذي كان أحد أقاليم أثيوبيا، وتمكن من الاستقلال بداية تسعينيات القرن العشرين، فسارعت إسرائيل لنسج علاقاتها مع أسياسي أفورقي الذي قاد استقلال أرتيريا عن أثيوبياـ وبفضل هذه العلاقة تمكنت تل أبيب من إقامة قاعدة عسكرية بالقرب من مضيق باب المندب، ثم سعت إسرائيل لتعزيز علاقاتها مع الحكومة الانفصالية في الصومال، المعروفة باسم (صومالي لاند).

وخلال السنوات الماضية عملت على تعزيز حضورها وتقوية علاقاتها في المنطقة، بالتركيز على الدول الأفريقية، أولاً لمواجهة الدول العربية في مرحلة الصراع، ثم لكسر نطاق العزلة العربية في مرحلة لاحقة، حتى استطاعت تطبيع علاقاتها مع بعض دول الخليج العربي والسودان، إحدى الدول العربية المطلة على البحر الأحمر.

 

قواعد أمريكية وتهديد إيراني وتحالفات إقليمية ودولية

في يوليو/ تموز 2018 هاجم المسلحون الحوثيون ناقلتي نفط سعوديتين، الأمر الذي جعل السعودية تعلن تعليق شحن النفط، وتعد أكبر مصدر للنفط الخام في العالم، وجاء ذلك بعد تهديد الحوثيين بإغلاق مضيق باب المندب أمام حركة الملاحة، وهو التهديد الذي حمله كثيرون على محمل الجد، سيما وأنه صادر عن جماعة مسلحة مرتبطة بدولة إيران، التي ينظر إليها بوصفها دولة مارقة على الإجماع الدولي. وتعاطى كثيرون من خصوم طهران على أن التهديد صادر عن إيران لأن الحوثيين هم وكلاؤها في المنطقة وينفذون توجيهات المسؤولين الإيرانيين.

وعلى الفور سارعت حكومة الاحتلال الإسرائيلي للرد على هذا التهديد بالقول إن "إيران ستواجه بقوة ومن خلال تحالف عسكري دولي تنضم إليه إسرائيل بكامل قوتها العسكرية في حال ما حاولت طهران إغلاق مضيق باب المندب على البحر الأحمر عبر حلفائها الحوثيين"[14].

وتزامن تهديد الحوثيين بإغلاق مضيق باب المندب مع تهديد داعميهم الإيرانيين بإغلاق مضيق هرمز، إذا تم منعها من تصدير النفط كما توعدتها بذلك الولايات المتحدة الأمريكية بعد انسحابها من الاتفاق النووي الدولي مع طهران الموقع في العام 2015.وأعطى هذا التزامن مؤشراً واضحاً للقوى الإقليمية والدولية مفاده أن طهران تستخدم الحوثيين لتحقيق أهدافها في توسيع سيطرتها وحماية مصالحها.

وتوالت ردود الفعل الإقليمية والدولية على التهديدات الحوثية والإيرانية في المنطقة، ففي يناير/كانون 2020 أُعلن في الرياض عن إنشاء "مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن"، وضم 8 دول عربية وإفريقية، هي: السعودية، مصر، الأردن، السودان، اليمن، إرتيريا، الصومال، جيبوتي. ووفقاً لبيان التأسيس فإن المجلس يأتي "استشعارًا بأهمية التنسيق والتشاور حول الممر المائي باعتبار البحر الأحمر المعبر الرئيسي لدول شرق آسيا وأوروبا".[15] مع التـأكيد على أن المجلس سيعمل على "حفظ المصالح المشتركة ومواجهة جميع المخاطر، والتعاون في الاستفادة من الفرص المتوفرة".[16]

وجاء الإعلان عن المجلس بعد أيام قليلة على التوتر المتصاعد الذي شهدته المنطقة في ظل التهديدات المتبادلة بين واشنطن وطهران التي توعدت بالانتقام لمقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني في غارة أمريكية بالعراق، ثم مشاركة إيران في مناورات بحرية ثلاثية مع روسيا والصين في خليج عُمان والمحيط الهادي، الأمر الذي يرجح وضع مؤسسي المجلس الجديد التهديدات الإيرانية بعين الاعتبار، خاصة في ظل تحركات إيران وحلفائها الحوثيين في البحر الأحمر، بالقرب من الممر المائي الدولي مضيق باب المندب[17].

إيران التي تقف على الجانب الآخر من الخليج العربي وتدعم الحوثيين في البحر الأحمر، لم تكن بعيدة عن التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة، فهي تأمل في بسط نفوذها على باب المندب من خلال الحوثيين، الأمر الذي يجعلها في موضع الاتهام بنقل صراعاتها مع دول الخليج العربي، إلى باب المندب بعد هيمنتها على مضيق هرمز[18]، لذلك فقد رأت أن هذا "الكيان الجديد يعمل في إطار تحالف مشروع الهيمنة الغربية وحماية المصالح الإسرائيلية، حتى وإن لم تشارك دولة الكيان الإسرائيلي في هذا التحالف بشكل مباشر"[19].

ومنذ هجمات سبتمبر/أيلول 2001، تتولى قوة أميركية تأمين الملاحة في المضيق تحت ذريعة مواجهة تنظيم القاعدة والقراصنة في المنطقة، كما تسيّر دول أخرى بوارج في المنطقة بما فيها إسرائيل، التي أعلنت رسميا إرسال مدمرتها الحديثة "ساعر 6" إلى البحر الأحمر بعد هجمات الحوثيين[20].

وفي العام 2007 أنشأت الولايات المتحدة القاعدة العسكرية "ليمونير" في جيبوتي، وهي مسؤولة عن العمليات والعلاقات العسكرية مع الدول الإفريقية، وأصبحت مقراً لقواتِ "أفريكوم" في المنطقة، ومهمتها مراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا واليمن.

وتحتفظ فرنسا بأكبر قاعدة عسكرية أجنبية لها خارج حدودها في جيبوتي. وينتشر نحو (1500) جندي في القاعدة ويقومون بمهام مكافحة الإرهاب وحراسة الممرات البحرية القريبة، وهناك قاعدة بريطانية في منطقة بيدوا يتمّ فيها تدريب القوات الصومالية، كما تسعى بريطانيا إلى إقامة قاعدة في جمهورية أرض الصومال. وتوجد في منطقة شبيلي بالصومال قاعدة "باليدوغل" الجويّة الأميركية، فيما تحدثت مصادر عن وجود قواعد عسكرية سرية أمريكية بالقرن الإفريقي، وقاعدتين بحريتين في كينيا، وفي إثيوبيا توجد قاعدة "أربا مينش" الجوية للطائرات بدون طيار، ومهمتها الاستطلاع والتجسّس في شرق إفريقيا[21].

وفي أبريل/ نيسان 2022، أعلنت قوات البحرية الأمريكية تشكيل قوة المهام المشتركة (153)، وذلك للقيام بدوريات في البحر الأحمر والعمل على مكافحة "الأنشطة الإرهابية والتهريب"، وبحسب قائد الأسطول الخامس الأمريكي، الأدميرال براد كوبر، فإن القوة ستعمل على "تعزيز التعاون بين الشركاء البحريين الإقليميين لتحقيق الأمن في البحر الأحمر وأجزاء من المحيط الهندي ومضيق باب المندب وخليج عدن"[22].

الجدير ذكره أن "قوة المهام المشتركة- 153"، هي رابع فرقة فيما يُعرف بـ"القوات البحرية المشتركة"، وفي ديسمبر/كانون أول 2022، تولت مصر قيادة عمليات القوات البحرية المشتركة، وهي المرة الأولى التي تتسلم فيها القيادة منذ انضمامها في أبريل/نيسان 2021، إلى الشراكة البحرية التي تتكون من 39 دولة[23]. وتهدف هذه القوة إلى "تحسين البيئة الأمنية بجميع المناطق والممرات البحرية وتوفير العبور الآمن لحركة تدفق السفن عبر الممرات الدولية البحرية، والتصدي لكل أشكال وصور الجريمة المنظمة التي تؤثر بالسلب على حركة التجارة العالمية ومصالح الدول الشريكة"[24]، وتتولى الولايات المتحدة قيادة تلك القوة اعتباراً من 12 يونيو/حزيران 2023.

التصعيد بعد الطوفان

أعلن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن أواخر ديسمبر الماضي، تشكيل تحالف دولي ضم 10 دول، بهدف التصدي للهجمات الحوثية المتكررة على السفن المتوجهة إلى بإسرائيل جنوب البحر الأحمر. وقال بيان أوستن إن التحالف الأمني سيعمل بهدف "ضمان حرية الملاحة لكل البلدان ولتعزيز الأمن والازدهار الإقليميين". ويضم التحالف الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والبحرين، وكندا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، وسيشل، وإسبانيا.

من جهتها حذّرت إيران من التعاون مع الولايات المتحدة ضد جماعة الحوثي، وقال علي شمخاني مستشار المرشد الإيراني للشؤون السياسية إن "انضمام أي بلد إلى الائتلاف الأميركي، مشاركة مباشرة في جرائم إسرائيل".  ودافع المسؤول الإيراني عن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، ووصفها بـ"الشجاعة"[25].

ويأتي الإعلان عن هذا التحالف العسكري الجديد في المنطقة التي شهدت في السنوات الأخيرة تشكيل عدة تحالفات عسكرية وأمنية إقليمية ودولية، بالإضافة إلى كونها تستضيف أكثر من 10 قواعد عسكرية تتبع في الغالب دولاً عظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا. وهو ما أثار الكثير من الجدل حول العوامل التي دفعت العديد من الفاعلين للبحث عن موطئ قدم في إقليم البحر الأحمر الذي يمثل أحد الأقاليم الفرعية لإقليم الشرق الأوسط، والتداعيات الاستراتيجية المترتبة على الوجود العسكري الكثيف، خاصة من الدول الأجنبية، على الأمن والاستقرار في هذا الإقليم شديد الخصوصية.[26]

وتحسباً لإغلاق مضيق باب المندب من قبل إيران والجماعات الموالية لها في المنطقة رداً على حرب غزة ، كان الأسطول الخامس التابع للبحرية الأمريكية، قد أعلن في أكتوبر 2023 وصول أكثر من ثلاثة آلاف بحار وجندي أمريكي إلى الشرق الأوسط، ودخول السفينة الهجومية البرمائية "يو إس إس باتان" وسفينة الإنزال "يو إس إس كارتر هول"، البحر الأحمر عبر قناة السويس، ولفت البيان وقتها إلى أن منطقة عمليات الأسطول تشمل الخليج العربي وخليج عُمان والبحر الأحمر، وأجزاء من المحيط الهندي و3 نقاط حرجة في مضيق هرمز وقناة السويس ومضيق باب المندب.[27]

إسرائيل التي يحلو لها أن تقاتل خصومها "من وراء جُدُر المجتمع الدولي"، قالت بلسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إن "ما يجري في البحر الأحمر تهديد للملاحة في العالم بأسره، وإن إسرائيل تخوض حرباً ضد إيران التي تهدد بإغلاق الممر البحري"، وفق ما نقله موقع هيئة البث الإسرائيلية.[28]

 

خاتمة

لا تزال التطورات المتسارعة سياسياً وعسكرياً وأمنياً على مستوى المنطقة العربية تثير المخاوف والقلق بشأن مستقبل التصعيد الراهن، الذي تسارعت وتيرته في العامين الماضيين، وكان على اتصال وثيق بالحرب التي تشهدها اليمن منذ قرابة 9 سنوات، وكذلك التصعيد الجديد الذي ارتبط بالحرب التي تشنها إسرائيل على غزة منذ أكتوبر/ تشرين أول الماضي.

وقد حمل الإعلان الأمريكي عن تشكيل تحالف عسكري جديد في جنوب البحر الأحمر، مؤشرات تصعيد جديد في المنطقة الاستراتيجية التي تتزاحم فيها عدد من القواعد العسكرية فضلاً عن التحالفات الإقليمية والدولية، الأمر الذي يشير إلى أن احتمالات نشوب صراعات مسلحة وعابرة للحدود الوطنية احتمالاً وارداً، سيما مع التنافس بين القوى والأطراف الفاعلة محلياً وإقليمياً ودولياً على توسيع رقعة السيطرة والنفوذ في هذه المنطقة التي تضم ممراً دولياً هو مضيق باب المندب، الممر الذي طالما نشبت حوله الصراعات والحروب، تارة في الدول الواقعة على ضفتيه، وتارة بين قوى ودول جاءت بها أطماعها من وراء البحار والمحيطات، لتبحث لها في هذا المضيق عن موطئ قدم، يمكّنها من تأمين مصالحها وتعزيز حضورها.

وفي هذا السياق تبرز دولة إسرائيل التي تخوض حرباً شاملة على قطاع غزة- وتسعى منذ أكثر من نصف قرن لتأمين نفسها من أبعد نقطة لها على البحر الأحمر، وفي مدخله الجنوبي- مضيق باب المندب، الباب الذي أغلق في وجهها يوماً ما، فكان ذلك سبباً لانكسار جيشها في العام 1973. ولها حضور في المنطقة يملأه حلفاؤها الكبار وعلى رأسهم واشنطن التي تضع تأمين حماية إسرائيل على رأس أولوياتها، حتى لو دخلت – وأدخلت معها دول المنطقة – في حرب جديدة.

 

 

 

المراجع


[1] تحالف عسكري ضد الحوثيين بالبحر الأحمر، الجزيرة نت، ديسمبر2023، على الرابط: https://cutt.us/a07gr .

[2]  أحمد الديب، إسرائيل والأمن الملاحي في منطقة البحر الأحمر، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، مارس 2023، على الرابط: https://cutt.us/KIOEq .

[3]  فؤاد مسعد، تأثيرات حرب غزة على الأمن الإقليمي والدولي في جنوب البحر الأحمر، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، ديسمبر 2023.

[4] تحالف عسكري ضد الحوثيين بالبحر الأحمر، مرجع سابق.

[5]  مهاب عادل حسن: متغير الأمن البحري في السياسة العسكرية الإسرائيلية تجاه البحر الأحمر وشرق المتوسط، دورية الملف المصري، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام)، العدد 106، يونيو 2023، صـ19.

[6] استراتيجية إسرائيل البحرية شرق البحر المتوسط، بوابة الشرق الأوسط الجديدة، سبتمبر 2020، على الرابط: https://cutt.us/Tina6.

[7]  متغير الأمن البحري في السياسة العسكرية الإسرائيلية، مرجع سابق.

[8]  المرجع نفسه.

[9]  استراتيجية إسرائيل البحرية، مرجع سابق.

[10]  إكرام زيادة، أهمية باب المندب والقرن الأفريقي خلال النزاعات والحروب الدولية، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، أكتوبر 2023، على الرابط: https://www.europarabct.com/?p=91675

[11] إسرائيل والأمن الملاحي في منطقة البحر الأحمر، مرجع سابق.

[12]  متغير الأمن البحري في السياسة الإسرائيلية، مرجع سابق.

[13]  عبد الزهرة شلش العتابي، الجغرافيا السياسية لمضيق باب المندب، مجلة كلية التربية الأساسية جامعة المستنصرية، ملحق العدد 52، 2008، صـ 209.

[14]  إسرائيل تهدد طهران بتحالف دولي عسكري حال إغلاق مضيق باب المندب، وكالة فرانس24، أغسطس 2018، على الرابط: http://tinyurl.com/yockq9pt .

[15]  توقيع ميثاق مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، سي ان ان عربية، يناير 2020، على الرابط: https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2020/01/06/saudi-arabic-arab-and-african-council-red-sea-and-gulf-aden .

[16]  المرجع نفسه.

[17]  فؤاد مسعد، القوى الإقليمية والدولية في باب المندب، عوامل التنافس وتداعيات الصراع، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، أغسطس 2023، صـ 12.

[18] أهمية باب المندب والقرن الأفريقي خلال النزاعات والحروب الدولية، مرجع سابق.

[19]  عباس عبدالله، الصراع الدولي والإقليمي في البحر الأحمر وباب المندب بعد ظهور الكيان الصهيوني، مجلة (فصلية طهران لدراسات السياسة الخارجية)، معهد الدراسات والبحوث الإيراني، نوفمبر 2023، على الرابط: https://tfpsq.net/ar/post.php?id=214 .

[20]  تحالف عسكري ضد الحوثيين بالبحر الأحمر، مرجع سابق.

[22] قوة المهام المشتركة 153، المعرفة، على الرابط:  http://tinyurl.com/ywkvzjpx .

[23]  المرجع نفسه.

[24]  التحالفات العسكرية في البحر الأحمر: تحركات لتأمين الملاحة أم تأهب لمواجهات قادمة؟ صحيفة الشرق الأوسط، ديسمبر 2023، على الرابط: http://tinyurl.com/ypgok7lw .

[25]  المرجع نفسه.

[26]  أميرة عبدالحليم، القواعد العسكرية في البحر الأحمر.. تغير موازين القوى، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، يناير 2018، على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/16525.aspx .

[27]  أهمية باب المندب والقرن الأفريقي خلال النزاعات والحروب الدولية، مرجع سابق.

[28]  التحالفات العسكرية في البحر الأحمر، مرجع سابق.

نشر :