مقدمة
تؤكد هذه التناولة أن أي تسوية سياسية قادمة تضمن بقاء كيان موازي عسكري وإداري للحركة الحوثية ضمن مشروع الدولة اليمنية ستحمل بذور فشلها وتعيد حالة الاحتراب من جديد عند أي تأزم .وتتوصل إلى أن استعادة السلام الدائم في اليمن يستلزم إجبار الحركة الحوثية على الاندماج في المجتمع السياسي و التخلي عن فاشيتها الأيديولوجية ومشروع فرض التسلطية العسكرية المذهبية على المجتمع بقوة السلاح، والتحرر من أوهام بناء الإمارات المذهبية والكيانات الموازية وتؤكد التناولة أن بقاء أي كيان مذهبي موازي للدولة في أي جزء من اليمن يحفز بناء إمارات وكيانات مذهبية أخرى في مناطق أخرى ويهدد السلام الداخلي والأمن الإقليمي والدولي.
واستعرضت الدراسة الخلفية التاريخية للصراع الزيدي السلفي في منطقة صعدة، وتوصلت إلى غياب العلاقة الجوهرية للصراع القديم بين الأئمة والوهابية بالصراع الجديد.
خلفية تاريخية
تزامن ظهور الدعوة الوهابية في منتصف القرن الثامن عشر مع بداية انهيار الدولة القاسمية الزيدية في شمال اليمن ([1])، وكان الأتراك هم العدو المشترك للدعوة الوهابية وحاملها السياسي المعتمد على العصبوية القبلية – آل سعود والقبائل العربية والمتحالفة معهم- ودولة الأئمة الزيدية في شمال اليمن والقبائل المتحالفة معها، والتي كانت تمتد إلى لحج وعدن. وكان الأتراك قد انسحبوا من صنعاء عام 1630، بعد معارك طويلة وقتال مرير في عهد الإمام المؤيد، قبل أن يعودوا إليه عام 1849 ([2])، وكانت الدولتان الزيدية والوهابية تخوضان حروباً ضارية ضد الأتراك. فقد استولى الوهابيون مطلع القرن التاسع عشر على مكة والمدينة قبل أن يطاردهم محمد على باشا ويعيد السيطرة من جديد على الحجاز، وحينها طلب محمد علي باشا من إمام صنعاء التعاون في مواجهة الوهابية مقابل الاعتراف بالعثمانيين وإعادة عسير إلى اليمن، إلا أن الإمام رفض هذا العرض، وتطور هذا الرفض إلى صراع انتهى بالسيطرة العثمانية على صنعاء قبل انسحابهم عام 1911. وفي أثناء هذا الصراع، كانت الدول الاستعمارية ممثلة ببريطانيا وإيطاليا تقدمان الدعم المالي للقبائل العربية التي تحارب العثمانيين ([3])، وبعد خروج الأتراك لم يتبلور أي صراع سياسي بين إمام صنعاء وبين الدعوة الوهابية؛ وكان الصراع الأبرز بين الإمام وأمير المناطق المجاورة لصعدة "الإدريسي"، وكان الإدريسي عدواً مشتركاً للوهابية والزيدية. وساءت العلاقة بين الإمام وبريطانيا إبان الحرب العالمية بالاتساق مع تحسن علاقته بالعثمانيين حينها، وحظي الإدريسي بدعم بريطاني - إيطالي واستطاع احتلال الحديدة، ومع ذلك لم يفضل الإمام الدخول في حرب مع البريطانيين.
بعد سقوط الإدريسي بدأ أول صراع سياسي بين المتوكلية اليمنية والوهابية السعودية حول بسط السيطرة والنفوذ على المناطق التي كانت تحت سيطرة الإدريسي، وخلال هذا الصراع كانت الدعوة الوهابية تستغل الخرافات والشعوذة والتبرك بالأضرحة والنذور للقبور التي كانت رائجة في تهامة وعسير لنشر دعوة التوحيد وبسط النفوذ السياسي، بالدعوة إلى إعادة إحياء الدين وتجديده ومحاربة الخرافة وعبادة الأوثان والإشراك بالله وفرض الدعوة بقوة السلاح والعصبيات القبلية والبدوية ([4]). ومع ظهور الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، تحسنت العلاقة نسبياً بين المتوكلية اليمنية والعربية السعودية.
بعد رفض الإمام التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين في مواجهة التحالف البريطاني مع الأشراف وآل سعود، تواصل الإخوان مع حركة الأحرار المعارضة للإمام، وجاءت الثورة الدستورية عام 1948، لتُساهم في تعميق علاقة الامامة المتوكلية اليمنية بالوهابية السعودية، واستمرت هذه العلاقة بعد اندلاع ثورتي أكتوبر وسبتمبر في ستينات القرن الماضي، وانسحاب النظام الإمامي من صنعاء إلى مناطق صعدة والجوف وحجة، ليخوض حرباً استنزافية مع النظام الجمهوري، مدعوماً من المعسكر الأمريكي - السعودي ([5]) في مواجهة الجمهورية التي حظيت بدعم المعسكر السوفييتي المصري، وانتهى الصراع باستسلام المعسكر الإمامي، والتوقيع على اتفاقية المصالحة في نهاية ستينات القرن الماضي، وتحررت صعدة من سيطرة النظام الإمامي عام 1969، وتم توقيع اتفاقية المصالحة التي استفاد منها العلامة بدر الدين الحوثي والعلامة مجد الدين المؤيدي، وعادا إلى صعدة بعد هروبهما إلى السعودية ([6])، وظلت البيوت الإمامية تحاول انتزاع بعض صلاحياتها المذهبية في صعدة كأخذ زكاة الخُمس ونحوها.
تطورات نظرية الإمامة
كان المفترض بعد أن وضعت الحرب بين الملكيين والجمهوريين أوزارها واستقرار النظام الجمهوري، أن تطور الزيدية نظريتها السياسية وتدرس أسباب انهيار النظام الإمامي وعجزه عن استيعاب مستجدات الأنظمة الحديثة، وأن يبذلوا جهداً علميا في تقريب نظرية الإمامة من نظرية الشورى ومفهوم النظام الديمقراطي الجمهوري في سبيل تحويل الزيدية إلى مذهب فقهي يتصالح مع الشرعية السياسية الحديثة للدولة المعاصرة، لكن السيطرة التقليدية على المذهب حالت دون هذا التطور.
وتأخرت مرحلة المراجعات والقراءات النقدية الجادة للنظرية الإمامية إلى مرحلة ما بعد الوحدة، إذ ظهرت لأول مرة دراسات تعيد أسباب فشل النظرية السياسية الزيدية إلى الانحراف المبكر في نظرية الإمامة وخروجها عن قاعدة الشورى إلى الحصر في البطنين وتوجهها نحو توريث الحكم غير المعلن. والذي تحول إلى توريث معلن بتسمية الإمام يحيى لابنه أحمد ولياً للعهد وعدم وضع ضوابط فعلية لمنع تعدد الدعاة إلى الإمامة الذين يحتكمون إلى مبدأ القوة وسلطة القهر والتغلب.
وفي بداية التسعينات ظهر لأول مرة بيان يطالب بالتخلي عن مصطلحات الإمامة من قبل عدد من كبار علماء الزيدية؛ يمثلون اللجنة التحضيرية لحزب الحق، وتضمن البيان التأكيد على تجاوز فكرة الإمامة والإقرار بالنظام الجمهوري، غير أن الذين وقعوا على البيان هم علماء صنعاء فقط في حين غابت أسماء علماء صعدة، وعلى رأسهم رئيس الحزب حينها العلامة مجد الدين المؤيدي، والعلامة بدر الدين الحوثي. ويرى الباحثون أن عدم توقيع بدر الدين الحوثي والمؤيدي على البيان يعني التمسك بأحقية آل البيت في الحكم، واعتبار البيان تراجعاً كبيراً عن الإطار الفكري للزيدية ([7])
هذا الإصرار على أهمية تموضع نظرية الإمامية بصورتها التقليدية في المذهب الزيدي يدفع بعض الباحثين إلى المطالبة بضرورة البلورة الفكرية والفقهية للمذهب الزيدي بعيداً عن النظرية السياسية.
التحولات الفكرية ولعبة الاستقطابات
مع استقرار النظام الجمهوري في صنعاء في السبعينات وظهور تحدي المعسكر الشرقي في عدن، واشتعال جبهة المناطق الوسطى بدعم من الجنوب والمعسكر الشرقي، شعر النظام السعودي بحاجته إلى تحسين علاقاته مع الصف الجمهوري بشقيه العسكري والقبلي، وصادف هذا التحول انتصار الثورة الخمينية الإيرانية عام 1979، وتبلور مشروع تصدير الثورة، واحتضان المعسكر الشرقي لهذه الثورة، ساعد جميع ذلك على انتعاش أحلام بقايا النظام الإمامي في إعادة بناء دولتهم، مستفيدين من احتدام صراع الشمال والجنوب وتبلور مشروع داعم جديد يمكن الاستناد عليه في إعادة مشروع الإمامة.
وفي هذه الفترة سافر حسين بدر الدين الحوثي إلى طهران، وكان من لوازم التعاون المشترك بين الطرفين محاولة التقريب بين الزيدية والاثنا عشرية.
ويؤكد الدكتور أحمد الدغشي أن هذا التقارب تبلور في عقائد فرقة الجارودية الزيدية المتطرِفة التي تورطت بتكفير الصحابة وتضليلهم مع تأكيده على أهمية التفريق بين المذهبين وبطلان دعوى التماثل ([8])
وتشكلت أول نواة للفكر الحوثي في عام 1982 ([9]). وفي نفس الفترة عاد الشيخ مقبل بن هادي الوادعي من السعودية إلى صعدة بعد إبعاده من السعودية إثر اتهامه في المشاركة بالترويج لأفكار جهيمان العتيبي، قبل قيام جماعة جهيمان باحتلال المسجد الحرام بثلاثة أشهر، وفي هذه الفترة استقر الشيخ مقبل في دماج مؤسساً مركز دماج العلمي.
الوادعي من الزيدية إلى السلفية
يرى الشيخ مقبل بن هادي الوادعي أن مصطلح متحول من الزيدية لا يصح إطلاقه على من عاشوا في الجغرافيا التي خضعت للسيطرة الزيدية السياسية، مؤكداً أن كلمة "زيدي" لا يصح أن تطلق إلا على من درس المذهب الزيدي واقتنع بما فيه، وأما العامة فهم أتباع من يثقون به ([10]).
ويؤكد الوادعي أنه لم يكن في صغره متحمساً للتمذهب، وأنه حاول أن يطلب العلم في جامع الهادي على أيدي علماء الزيدية، ولكنهم لم يأخذوا على يده، وربما حاولوا صرفه عن طلب العلم لأسباب عُنصرية، تنطلق من ثقافة التراتب الاجتماعي الذي رسخته الأنظمة الإمامية المتعاقبة خلال قرابة ألف عام.
وهذا ما لمحه صاحب كتاب "الإسلام السياسي في زمن القاعدة" في المبحث الذي خصصه للشيخ الوادعي تحت عنوان "خفايا مسار أيديولوجي: سلفي يمني بين الراديكالية الدينية والإستراتيجية الاجتماعية". ويعتبر المؤلف الوادعي المنظِر الرئيس لأكثر اتجاهات الفكر السلفي اليمني والعالمي حَرفية.
ويشير الباحث إلى أن مقبل لم يكن "ينتمي للأرستقراطية الدينية لسلالة النبي (السادة، الوحيدين الذين يمكنهم أن يطمحوا إلى منصب الإمامة الرفيع)، ولا للأرستقراطية الحقوقية "للقضاة"، مستشاريهم الأساسين، ولا حتى لأرستقراطية "السيف" التي يشكلها، حتى يومنا هذا، رؤساء القبائل الكبيرة، قوة الإمامة المسلحة الرئيسة لفترةٍ طويلةٍ" ([11] ويشير المؤلف إلى اضطرار الوادعي إلى الهجرة الى السعودية تحت ضغط الواقع الاقتصادي، بعد ان فرضت عليه محاولة غسيل دماغ في جامع الهادي، فيقول: "لم تكن العزلة والنفي اللذان بدأ يعانيهما إيديولوجيتين فقط، كان لهما بُعد اجتماعي صريح وتعبير عن احتقار السادة سليلي الرسول له".
ويروي الكاتب كيف كان يذكره أعضاء الارستقراطية الدينية عندما يحاول التمرد بطبقته الاجتماعية وأنه ليس سوى قبائلي وضيع، ولن يحلم بالخروج من طبقته. وتهكموا قائلين: مهما دعكنا "الممسحة" لن تصبح أبداً بيضاء.
ويؤكد الكاتب أن هذا التنبيه الديني والاجتماعي كان مهيناً للغاية؛ لأنه صدر عن هؤلاء الذين يحمون شحوب بشرتهم بمظلات واسعة كيلا يصبحوا كالفلاحين. لقد دون مقبل في سيرة حياته: سأذكر ذلك طيلة حياتي "([12]).
دماج والظاهرة الحوثية
الاستعراض السابق لسيرة الوادعي يشير إلى طبيعة التحدي الذي فرضته أيديولوجيا التعصب المذهبي الزيدي في جامع الهادي على نفسية الشيخ الوادعي، كان لا بُد أن يعود الوادعي إلى صعدة ليثبت لمخالفيه أنه ليس ذلك الممسحة القبيلي الذي لا يُمكن أن يستوعب العلم، بل إنه قادر على منافستهم والتفوق عليهم، فعاد في منتصف السبعينات وحاول الترويج لأفكاره في جامع الهادي نفسه، فحدثت أول مواجهة علنية له مع علماء الزيدية، وتطورت إلى اشتباك بالأيدي. يؤكد الوادعي أنهم حاولوا قتله، لولا تدخل أبناء قبيلته "وادعة" في الدفاع عنه، وتدخلت السلطات الأمنية وألقت القبض عليه مع عددٍ ممن اشتبك معهم وإيداعهم السجن.
ويذهب بعض الباحثين إلى أن تأسيس الشيخ مقبل الوادعي مركز دماج كان من أهم العوامل الأساسية لانشاء المراكز العلمية التابعة لمنتدى "الشباب المؤمن". ويؤكد صاحب كتاب "الظاهرة الحوثية" أن إنشاء هذه المراكز كان رداً عملياً "على التحدي الذي شكله قيام مركز دماج السلفي التقليدي في مديرية وادعة القريبة من مدينة صعدة، بإدارة الشيخ الراحل مقبل بن هادي الوادعي (ت:1422هـ-2001م): رأس الدعوة السلفية في اليمن، مع ما يُعلم تاريخياً من كون منطقة صعدة تمثل كرسي الزيدية الهادوية في اليمن"( 13]). ويؤكد الكاتب أن الشيخ الوادعي "رفع راية الحملة ضد الزيدية والشيعة المذهبية بصورة عامة، مما قاد خصومه هنالك إلى رد فعل زيدي عنيف لمواجهته تمثل بعضها لاحقاً في تأسيس ما عُرف بمنتديات "الشباب المؤمن"، بعد أن كانت جبهة المواجهة هذه غير قائمة – على ذلك النحو على مدى نحو عقدين من الزمن؛ أي منذ الإعلان عن الثورة اليمنية في 1962 بعيد عودته من العربية السعودية في أواخر الثمانينات الميلادية" ([14])
وساهم هذا التهديد السلفي في بلورة ما يسميه البعض "الزيدية الاحيائية" التي قامت على أساس استشعار خطورة ضياع الهوية الزيدية أمام الدعوة الوهابية ([15])
وينسب تقرير الأزمات الدولية إلى يحيى الحوثي قوله: "إن دافعنا الأساسي للعمل هو مكافحة الوهابية"، مشيراً إلى "وجود حروب فكرية وثقافية من بداية الثورة، وأن الحكومة تنشد مساعدات اقتصادية من السعودية، وهي تساند انتشار الوهابية في سبيل ذلك" ([16])
ولعل في ذلك ما يبرر الدعم الذي كان يتلقاه مركز دماج من نظام صالح، وثمة من يرى أن الدعم الحكومي لمركز دماج لم يكن يستهدف الزيدية قدر استهدافه للإخوان الخصم السياسي الأبرز لنظام صالح. يقول صاحب كتاب "الإسلام السياسي": "إن راديكالية السلفيين المذهبية ضد الإخوان المعارضين لنظام علي عبد الله صالح هي -جُزئياً على الأقل- نتاج ﺗﻬاون السلطة المتسامحة. وباعتبار أن السلفيين هم بشكلٍ واضحٍ أقل انخراطاً من الإخوان في ديناميكية التحديث السياسي، لا يخلو مثل هذا الدعم، الذي له ما يماثله في العديد من بلدان المنطقة، من الواقعية والاستخفاف" ([17])
وفي المقابل تم تسويق الدعم لمنتدى الشباب المؤمن- نواة الحركة الحوثية- للغرض ذاته، وفي هذه العلاقة بعض ما يفسر عدم الصدام بين الطرفين طيلة فترة الحروب الستة بين الحوثيين ونظام صالح، واشتعال هذا الصدام مع تهاوي نظام صالح منذ انطلاقة الثورة الشعبية في 2011.
الحروب الست والثورة
تشير جميع الدلائل أن السلفيين عامة وسلفيين دماج خاصة كانوا حريصين على عدم التورط العملي في الحروب الستة، رغم أنهم كانوا حريصين على تغليف مواقفهم في تأييد النظام بطاعة ولي الأمر وشرعية قتال من يخرج عليه.
ولم يتهمهم الحوثيون بالمشاركة الفعلية في الصراع خلال هذه الحروب، مقتصرين على اتهامهم بتوفير الغطاء الديني لهذه الحروب، كما أكد ذلك البيان الصادر عن مكتبهم الإعلامي الذي جاء رداً على مؤتمر السلفيين في تاريخ 30 نوفمبر 2011، والذي تضمن إدانة الدعوات والممارسات الطائفية، وكل ما من شأنه إثارة الفتنة والفرقة بين أبناء الشعب اليمني، وأعلن البيان الصادر عن مكتب الحوثي تثمينه لهذا الموقف وتأكيده في الوقت ذاته: أن "من يمارس النشاط الطائفي ويدعو إليه ويحرض على الفتنة المذهبية والطائفية، وينشر فتاوى التكفير ضد كل من يخالفهم في الرأي أو في الفكر هم أصحاب مركز دماج، ومن يقف خلفهم، ويبررون قتل الناس تحت دعاوى أنهم روافض جائز قتلهم" ([18])
لا يمكن عزل تصاعد الصراع ما بعد دماج عن التداعيات السياسية والأمنية الناجمة عن الثورة السلمية ، الأمر الذي شجع طموحات مشاريع التسلط المذهبي على المجتمع بقوة السلاح، وفي حين كان خصوم الحوثيين يؤكدون وجود اتفاقيات سرية بين النظام والحوثيين لتمكينهم من السيطرة على مناطق شمال الشمال بهدف إرباك صف التغيير ، غير أن مقربين من الجماعة الحوثية ينفون هذه الاتهامات، ويؤكدون أنهم يتعاملون مع الحزب الحاكم باعتباره تركة الرجل المريض التي يجب أن يحصلوا منها على أكبر حصة.
صعدة وحروب الوكالة
ساهمت الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية لمحافظة صعدة والمحيط المجاور بتحويلها إلى ميدان حروب دولية تُدار بالوكالة بأيدٍ محلية، ولو اكتفينا بالاستعراض السريع لتاريخ هذه الحروب في تاريخنا القريب من بداية القرن العشرين، إذ تشير الوقائع إلى أن هذه المنطقة شهدت حروباً طاحنة بالوكالة، وبالتدخل المباشر بين الأتراك والبريطانيين والإيطاليين في بداية القرن الماضي. ونستطيع أن نلمس بوضوح هذا الاستعداد للتحول إلى أدوات حروب بالوكالة في صفحات كتاب "ملوك شبه الجزيرة العربية"، الذي ألفه المعتمد البريطاني في جنوب اليمن كولونيل هارولد عام 1923 باللغة الإنجليزية، وترجمه السفير الراحل أحمد المضواحي؛ أشار فيه المؤلف إلى الدور البريطاني الكبير في تحريض العشائر العربية في الجزيرة العربية على الاستقلال عن العثمانيين، ومحاربتهم.
ويشير الكتاب إلى الدعم البريطاني الذي قدمه للأشراف في الأردن وآل سعود في نجد والأدارسة وآل حميد الدين اليمن، وجنوب مكة، وغيرهم من القبائل في شمال اليمن والسلاطين في الجنوب.
ويوضح المعتمد البريطاني كيف كان يتهالك زعماء القبائل وراء "الذهب". وأشار إلى وثيقة أرسلها سلطان يافع إلى الإمام تؤكد أن الإنجليز يشترون العرب بالذهب، وأن العرب لا يستطيعون مقاومة الرشوة. وأشار المعتمد البريطاني إلى رسالة وصلتهم من أحد المشايخ يطلب ضم اسمه إلى قائمة المشايخ الذين يستلمون المرتبات من بريطانيا ليقف مع بريطانيا في مواجهة الإمام الزيدي.
ويوضح الكاتب كيف اعتادت القبائل اليمنية والعربية على الارتزاق من الحرب بين الأتراك والإمام، وكيف كانت تقبض من الجانبين، وكانت تعتقد بخطورة التصالح معتمدة على المثل القائل: "إذا وقعت الشريمان شريماً واحداً فترت العرب» ([19]) .
وهذه الإشارة تؤكد وجود مشكلة أساسية في البنية الاجتماعية والاقتصادية ينتج عنها استعداد الكثير من المكونات الاجتماعية للدخول في أي حرب بناءً على قدرة الأطراف المتصارعة على العطاء، واستثمار أي صراع بين جبهتين كفرصة للاستفادة من الطرفين، وعلى ضوء هذه القاعدة يمكن قراءة قدرة الصف القبلي الجمهوري والصف القبلي الملكي بعد ثورة سبتمبر على استجلاب الحرب بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى الدخول في حرب بالوكالة؛ شارك فيها الاتحاد السوفيتي بواسطة مصر، وتدخل فيها الطيران السوفيتي والسوري والجزائري، وبين المعسكر الأمريكي - السعودي الداعم للملكية.
وبعد تحولات الصراع التي سبق الإشارة إليها في مطلع هذه الدراسة، وانتقال التيار الإمامي من المعسكر الأمريكي إلى المعسكر الإيراني - الروسي، تبلورت جماعة الشعار (الموت لأمريكا) في محاولة واضحة لجر أطراف الصراع الدولي إلى اليمن، واستجلاب الدعم، فضلاً عن محاولة الدفاع عن الهوية المذهبية في مواجهة السلفية التي ارتبطت بالدعوة الوهابية.
وخلال سنوات الحرب الست كانت هناك اتهامات متبادلة بين نظام صالح والحوثيين فصالح كان يتهم الحوثيين بتلقي الدعم من إيران، فيما الحوثيون كانوا يتهمون صالح بتلقي الدعم من السعودية لمحاربته، وكلا الطرفان يحاولان من خلال تضخيم الدور الاقليمي استجداء الدعم وابتزاز المحيط الإقليمي في ظل حالة الاستقطاب الطائفي المتنامي على حساب أمن واستقرار البلد، وفي سبيل خدمة المشاريع الضيقة.
ولأن كلاً من النظام والحوثيين استمرأ لعبة تحويل نفسيهما إلى أدوات في إطار لعبة الاستقطاب الإقليمي الطائفي، فإن قيام الثورة الشعبية ضد النظام في 2011 أثار مخاوف الحوثيين من إمكانية إفضاء نجاح الثورة في ترسيخ الهوية السياسية لليمن على أسس ديمقراطية صحيحة وشعور الحركة بافتقادها إلى الفزاعة التي كانت تستفيد منها في لعبة الاستقطاب الطائفي؛ باعتبارها أقلية تتعرض للاضطهاد وهو ما جعلهم يعتقدون بأن بناء دولة على أسس صحيحة سيفقدهم مبررات البقاء وسيُساهم في محاصرة البيئة التي كانت خصبة للاستقطاب.
خاتمة:
ساهم انسداد آفاق التغيير السلمي، وظهور مشروع توريث السلطة وتراجع الهامش الديمقراطي في اليمن في السنوات الأخيرة من سنوات نظام صالح، بصورة كبيرة في تحويل خيارات العنف الديني إلى خيارات جذابة، فضلاً عن دور هذا التراجع في تحويل لغة تنظيم القاعدة والجماعة الحوثية، إلى لغة قادرة على إقناع الشباب المتدين في مجتمع يمتلك السلاح، وتتفشى فيه الأمية ويعشش في ربوعه الفقر، وستظل ثلاثية السلاح والفقر والأمية العوامل الخطرة في تجنيد الكثير من أبناء المجتمع كأدوات رخيصة للجماعات المتقاتلة، في مشاريع العنف الطائفي.
و في ضوء المعطيات السابقة و بعد الواقع الذي وصلت إليه اليمن اليوم كنتيجة لتداعيات انقلاب الحركة الحوثية وسيطرتها على العاصمة ومع اقتراب الجيش الوطني للحكومة الشرعية من صنعاء فإن أي حديث عن أي تسوية سياسية قادمة تضمن بقاء كيان موازي عسكري وإداري للحركة الحوثية ضمن مشروع الدولة اليمنية ستحمل بذور فشلها وتعيد حالة الاحتراب من جديد عند أي تأزم . على ذلك فإن استعادة السلام الدائم في اليمن يستلزم إجبار الحركة الحوثية على الاندماج في المجتمع السياسي و التخلي عن فاشيتها الأيديولوجية ومشروع فرض التسلطية العسكرية المذهبية على المجتمع بقوة السلاح، والتحرر من أوهام بناء الإمارات المذهبية والكيانات الموازية ، فبقاء أي كيان مذهبي موازي للدولة في أي جزء من اليمن يحفز بناء إمارات وكيانات مذهبية أخرى في مناطق أخرى ويهدد السلام الداخلي والأمن الإقليمي والدولي.
المراجع
[1] عبدالباري طاهر من محاضرة عن الجذور الأولى للنزاع اليمني - السعودي.. الدين والقبيلة بين الزيدية والوهابية، في منتدى الجاوي الثقافي، أعيد نشرها في في موقع صحيفة التجمع على هذا الرابط: http://www.attagammua.net/index.php?action=showDetails&id=1677
[2] هارولد يعقوب، ملوك شبه جزيرة العرب، ترجمة أحمد المضواحي، ص16،ط دار العودة بيروت،1988
[3] المصدر السابق.
[4] - عبدالباري طاهر من محاضرة عنالجذور الأولى للنزاع اليمني - السعودي.. الدين والقبيلة بين الزيدية والوهابية، في منتدى الجاوي الثقافي، أعيد نشرها في في موقع صحيفة التجمع على هذا الرابط:http://www.attagammua.net/index.php?action=showDetails&id=1677
[5]- أشار المؤرخ المصري حسنين هيكل أن إسرائيل قامت بإعطاء شحنات من الأسلحة كما أقامت اتصالات مع المئات من المرتزقة الأوروبيين الذين يقاتلون بجانب الملكيين في اليمن.[30] وقامت إسرائيل بإنشاء جسر جوي سري بين جيبوتي وشمال اليمن. وأعطت الحرب الفرصة للإسرائيليين لمراقبة وتقييم التكتيكات الحربية المصرية وقدرتها على التكييف مع ظروف المعارك http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86
[6] - عادل الأحمدي، الزهر والحجر ص129.
[7] أشواق أحمد غليس، "التجديد في فكر الإمامة عند الزيدية في اليمن" رسالة علمية.
[8] أحمد الدغشي، الظاهرة الحوثية،دراسة منهجية شاملة، صنعاء،2009.
[9] عادل الاحمدي ،الزهر والحجر، ص129،ط2006م.
[10] موقع شبكة العلوم السلفية على الرابط التالي:
http://aloloom.net/vb/showthread.php?t=7346
[11] فرانسو برغا، الإسلام السياسي في زمن القاعدة: إعادة أسلمةٍ، تحديث، راديكالية، ترجمة سحر سعيد، ص 42، ط2006.
http://www.muqbl.com/play-96.html
[12] فرانسو برغا، الإسلام السياسي في زمن القاعدة: إعادة أسلمةٍ، تحد يث، راديكالية، ترجمة سحر سعيد، ص 42، ط2006.
[13] أحمد الدغشي، مرجع سابق،ص 11.
[14] المرجع السابق ص 11، 12.
[15] تقرير مجموعة الأزمات الدولية رقم 89 حول الشرق الأوسط مايو 2009 ص 7.
[16 المرجع السابق ص 10.
[17] فرانسو برغا، الإسلام السياسي في زمن القاعدة: إعادة أسلمة، تحديث، راديكالية، ترجمة سحر سعيد، ص47-48
[18] البيان منشور في موقع المكتب على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"
https://www.facebook.com/AlhothiOffice
[19] هارولد يعقوب،ملوك شبه جزيرة العرب، ترجمة احمد المضواحي، ص82،ط دار العودة بيروت،1988
كان المفترض بعد أن وضعت الحرب بين الملكيين والجمهوريين أوزارها واستقرار النظام الجمهوري