مقدمة
عززت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط بالذات على طريق ممرات التجارة الدولية في البحر الأحمر والخليج العربي، وذلك بإرسال المزيد من قواتها بما في ذلك آلاف الجنود وعدد من القطع البحرية وطائرات حربية متنوعة. فما دلالات هذه الخطوة الأمريكية وما دوافعها، وما الأهداف المحتملة التي تسعي الولايات المتحدة إلى تحقيقها، وكيف يمكن أن ينعكس إرسال مزيد من قواتها على المنطقة واستقرارها.
إرسال مزيد من القوات الأمريكية
أعلن الأسطول الأمريكي الخامس في البحرية الأمريكية عن وصول أكثر من 3000 جندي أمريكي إلى البحر الأحمر في السادس من أغسطس الجاري على متن السفينتين الحربيتين: يو إس إس باتان، ويو إس إس كارتر هول. ويأتي وصول هذه القوات في سياق نشط سبق الإعلان عنه لتعزيز الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، ففي أواخر مارس الماضي قامت الولايات المتحدة بإرسال طائرات عسكرية إلى المنطقة، وفي يوليو الماضي أعلنت عن قرار نشر قوات إضافية بما في ذلك الآلاف من مشاة البحرية (المارينز) ومقاتلات إف-35 وإف-16بالإضافة إلى المدمرة يو إس إس توماس هاندر. ووفقاً للمسؤولين العسكريين الأمريكيين من المخطط أن يكون لهذه القوات الإضافية تواجد دائم في المنطقة. ومع أن من غير الواضح أين ستتمركز القوات الأمريكية الجديدة على نحو الدقة إلا أن منطقة عمليات الأسطول الخامس تشمل المياه الدولية امتداداً من مضيق هرمز وبحر عمان إلى مضيق باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس، بالإضافة إلى أجزاء من المحيط الهندي. وسبق ووصلت تعزيزات عسكرية إلى القواعد الأمريكية شرقي سوريا، وأجرت القوات الأمريكية هناك مناورات عسكرية شاركت فيها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وجيش سوريا الحرة. ومن المخطط أن تجري القوات الأمريكية في الأيام القليلة القادمة تدريبات عسكرية وعمليات ميدانية أخرى مع شركاء في المنطقة.
الدلالات والأهداف
ترتبط هذه التحركات العسكرية الأمريكية ببعض التطورات التي شهدتها المنطقة والعالم، وبالذات بالتقارب السعودي الإيراني الذي تم برعاية صينية والحرب في أوكرانيا، وبالتحولات في ديناميات علاقة دول المنطقة بالقوى العظمى، بما في ذلك التغير الذي لحق بعض حقائق السياسة الخاصة بعلاقات هذه الدول بالولايات المتحدة خصوصاً وبالغرب عموماً والتي بدت طوال العقود الماضية راسخة، وهو تغير يشير إليه تبني حلفائها التقليديين في الخليج سياسة جديدة يطلق عليها البعض سياسة الانحياز المتعدد تقوم على عدم الاكتفاء بالتحالف مع الولايات المتحدة وبناء صلات مع مختلف القوى العالمية بما في ذلك مع القوى المنافسة لها وعلى رأسها الصين وروسيا، وهذه التحولات غير مرغوبة لواشنطن وتأتي على حساب النفوذ والتأثير الأمريكيين في المنطقة وتشي بتراجعهما. وكشف التقارب السعودي الإيراني بالذات عن تنامي نفوذ الصين وتوسع أدوارها. هذه التطورات كشفت عن ضعف النهج الأمريكي القائم تجاه المنطقة ووضعت إدارة بايدن في موقف حرج وتسببت لها بضغوط داخليه تطالب بمراجعة السياسات القائمة، وانتهت كل ذلك إلى ظهور حاجة أمريكية إلى تبني نهج جديد في التعامل مع المنطقة وما يجري فيها.
غير أن إرسال قوات أمريكية إضافية إلى المنطقة ليس نتيجة خالصة لمثل هذا التطورات فقط، فقد كشفت النتائج المتواضعة للدبلوماسية الأمريكية، كما يظهر على وجه الخصوص في الملف النووي الإيراني وفي الملف اليمني، عن الحاجة لأدوات إضافية تعزز فرص نجاح الجهود والتحركات السياسية الناعمة في مختلف ملفات المنطقة. وهذا ما يربط التحركات العسكرية الأمريكية ويجعلها تأتي متفقة مع مبدأ الردع الذي أعلنت إدارة بايدن تبنيه كأحد مبادئ سياستها تجاه المنطقة.
وللولايات المتحدة عديد الأهداف التي يفترض أنها تعمل للوصول إليها، وهذه الأهداف تتمحور حول تعزيز المكانة والأدوار الأمريكية وإعادة ضبط علاقاتها بالمنطقة وعكس مفاعيل التحولات غير المرغوبة التي بدأت تلحق معادلة العلاقة بين دول المنطقة والقوى الكبرى.
1- تعزيز المكانة والأدوار
بالإضافة إلى احتفاظها بنفوذ اقتصادي كبير ستبقى الولايات المتحدة الفاعل الأمني الأبرز في المنطقة، وهي بحاجة إلى إثبات أنها مازالت اللاعب الدولي الأهم والقوة الأكثر حضوراً وتأثيراً في المنطقة. وبقدر حاجتها لتأكيد هذه المكانة واستثمارها يشير ما يصدر عن المسؤولين الأمريكيين إلى أن واشنطن تعمل على تعزيز حضورها وتطوير قدراتها العسكري في المنطقة. وأكد البنتاجون على مجموعة من الأهداف المتداخلة تشمل تعزيز الوجود الأمريكي في المنطقة، وتعزيز قدرات القوات الأمريكية على مراقبة (مضيق هرمز) والمياه المحيطة وتمكين الاستجابة السريعة في حالة حدوث مشكلة، وإعطاء المزيد من الخيارات والمرونة لصانعي القرار السياسي في البيت الأبيض مثلما للقادة العسكريين في الميدان. وهكذا فواشنطن وبقدر ما يهمها إظهار المزايا العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط حريصة وتعمل على الحفاظ على تفوقها ضد منافسين مثل روسيا والصين بإضافة مزايا جديدة. ووفقاً لقائد القيادة المركزية الأمريكية، "القوات الجديدة ستضيف قدرات فريدة إلى المنطقة". وحاجة كهذه تؤكد عليها حقيقة أن الأمن سيظل مسألة محورية في علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة بما في ذلك بحلفائها الخليجيين والإسرائيليين. وتزداد الحاجة إلى خطوة كهذه في ضوء اتهامها بعدم القيام بما يكفي للحفاظ على أمن حلفائها ولردع الهجمات والتهديدات الإيرانية للملاحة الدولية.
2- تصحيح العلاقة بالحلفاء
وفي ضوء التطورات الأخيرة، وما كشفه التقارب السعودي الإيراني والطريقة التي تعاملت بها دول الخليج مع الحرب في أوكرانيا من إشكالات تعاني منها علاقة الولايات المتحدة بحلفائها في المنطقة فواشنطن بحاجة إلى تصحيح علاقتها بهؤلاء وإثبات أنها لا تزال ملتزمة بأمنهم وأن بإمكانها القيام بشيء في سياق ردع إيران والضغط عليها. وتكريس حضورها العسكري في المنطقة وإظهار ما تتمتع به من مكانة ومزايا في الشرق الأوسط طريقة أخرى في خدمة مساعيها لإظهار الالتزام بأمن شركائها، ولإبعادهم عن القوى المنافسة ولضمان مواصلتهم التعامل معها باعتبارها الشريك الأمني "الوحيد". ما يعطي إصلاح العلاقة بالحلفاء أهمية إضافية أن إدارة بايدين ترغب في لعب دور أهم في المنطقة وتحقيق انتصار كبير في السياسة الخارجية يدعم موقفها في الانتخابات الرئاسية القادمة، وتعمل في هذا الاتجاه لعقد صفقة واسعة مع السعودية تقول التسريبات إنها قد تتضمن تفاهمات أمنية تضمن الدفاع عن السعودية بالإضافة إلى تطبيع العلاقة بين الأخيرة وإسرائيل.
3- ردع الأنشطة الإيرانية
تقول واشنطن إن إرسال قوات إضافية لها إلى المنطقة يهدف إلى حماية التدفق الحر للتجارة الدولية، وهو بالذات رداً على أنشطة طهران المهددة للملاحة ومحاولاتها الاستيلاء على سفن شحن تجارية وبعد أن احتجزت أو حاولت السيطرة على حوالي 20 سفينة خلال العامين الماضيين. وفي تأكيد على هذا الهدف قالت واشنطن في الأسبوع الماضي إنها تدرس وضع جنود على متن سفن تجارية تسافر عبر مضيق هرمز لمنع إيران من اختطافها وإنه تم بالفعل تدريب بعض جنود مشاة البحرية لهذا الغرض.
غير أن ردع الأنشطة الإيرانية المهددة للملاحة الدولية ليس كل شيء، فهذه التحركات مازالت طريقة للضغط على إيران في قضايا أخرى، فإدارة بايدن-على سبيل المثال- تسعي للخروج باتفاق معها حول ملفها النووي، وهو مسعى ربما حفزه التقارب السعودي الإيراني نفسه، وتحركات كهذه تؤمن بعض الضغوط المطلوبة لضمان تفاعل طهران مع هذا المسعى وضمان الخروج باتفاق مقبول يحظى بقبول الحلفاء الخليجيين وإسرائيل أو يؤمن عدم معارضتهم، وكذلك لترشيد سلوكها في المنطقة. وبتعزيز حضورها وفاعليتها العسكرية في المنطقة فواشنطن تتأمل بناء تنسيق عسكري أكبر ضد إيران.
كما قد تسهم الضغوط المتأتية من هذه التحركات في دفع إيران للعب دور إيجابي في الملف اليمني وباتجاه وقف الصراع وإحلال السلام في اليمن، خصوصاً الولايات المتحدة تقول إن وقف الصراع يمثل بالنسبة لها أولوية، وهي تتعامل مع الموقف الإيراني بشك وترى أن لا شيء في سياسات إيران يشير إلى أنها تنوي أن تكون جاراً جيدًا على المدى الطويل أو تسهم في وقف الصراع في اليمن من تلقاء نفسها.
ومازالت التحليلات تربط جلب مزيد من القوات الأمريكية إلى المنطقة بخطط لمهاجمة إيران مستشهدة بالتعزيزات التي تشهدها القواعد الأمريكية شرقي سوريا والتي تقولإنه لا يمكن تبريرها إلا كمحاولة لقطع خطوط الاتصال بين إيران وكل من سوريا ولبنان في منطقة البوكمال حال نشب صراع مع إيران. شكوك كهذه يعززها ما ورد في صحفإسرائيلية من إن الهدف الأساس للولايات المتحدة هو تأمين ممر هرمز والملاحة الدولية من أي رد فعل قد تقوم به إيران حال استهدافها عسكرياً.
4- احتواء نفوذ القوى المنافسة
يأتي إرسال المزيد من القوات الأمريكية إلى المنطقة في وقت يتوسع فيه نفوذ الصين وتتعمق شراكاتها مع دول المنطقة، ويهم الولايات المتحدة احتواء هذا النفوذ المتنامي ومحاصرته وبالذات من خلال التغلب على جاذبيتها في المجال العسكري، فمع أن مازال أمام الصين مسافة كبيرة لتلعب أدوارا منافسة على الصعيد الأمني والعسكري، غير أنها تقدم دعما أمنياً لأصدقائها في المنطقة بصورة مختلفة كدعمها الأمن الداخلي وبرامج التدريب وتوفير تكنولوجيا الرقابة. وإذا كانت صفقات السلاح الصينية مثلاً لا تتجاوز نسبة 5% من صفقات السلاح للمنطقة، إلا أن شراء السلاح الصيني أسهل ومبيعات السلاح غير مشروطة. ومع أن ليس للصين سوى قاعدة عسكرية واحدة في جيبوتي، إلا أن فرص توسعها قائمة خصوصاً على ضوء مشاركتها في بناء منشأة لوجستية في الإمارات، كما يمكنها استخدام المنشآت والقواعد التجارية المتزايدة كمحطات لوجستية لتسهيل أي أنشطة عسكرية. وبالإضافة إلى محاولة لتقليل فرص توسع النفوذ والأدوار العسكرية الصينية، تتقصد الولايات المتحدة من خلال تعزيز حضورها العسكري في المنطقة وإبراز قدراتها المتميزة محاصرة الأدوار السياسية الصينية، فمن شأنه-مثلاً- أن يجعل تعاون دول المنطقة مع الصين أقل جاذبية، وذلك بما يبرزه من قدرات متواضعة للصين ولقوى أخرى منافسة كروسيا. إظهار هذا التفوق والتميز يعمل من جهة أخرى عبى إظهار الصين قوة تفتقر القدرة على ضمان أي اتفاقات سياسية قد تتوسط فيها.
إن تكريس السيطرة على أحدى أهم مناطق إنتاج الطاقة في العالم بإرسال مزيد من القوات إليها يضيف أو يؤكد على ميزة في سياق التنافس مع القوى الدولية خصوصا الصين، ففي سيطرة كهذه تهديد للأخيرة التي يأتي جزء كبير من إمداداتها النفطية من الشرق الأوسط ويفترض أن ينعكس وضع كهذا في ضبط طموحاتها ولو نسبياً، بما في ذلك تعاونها العسكري مع روسيا التي شاركت معها مؤخراً في تدريبات بحرية وجوية واسعة في بحر اليابان وهي التدريبات التي أثارت قلق واشنطن خصوصاً في ضوء التوتر الحاصل بين الطرفين حول قضية تايوان.
النتائج والتداعيات على المنطقة
لا يتوقع أن يكون لهذه الخطوة الأمريكية نتائج فورية أو أن تنعكس على نحو مباشر على استقرار المنطقة سلباً أو إيجاباً، ولكن وعلى الرغم من أن تهدئة التوتر الإقليمي أحد أهداف إرسال مزيد من القوات الأمريكية كما يقول المسؤولون الأمريكيون، هناك فرص كبيرة أن يتسبب بزيادة التوتر في المنطقة. ومع أن من المتوقع أن تتراجع العمليات الإيرانية ضد السفن، وأن تتجنب إيران القيام بأي استفزازات مباشرة، غير أن ما صرحت به طهران من أن التواجد العسكري الأمريكي سيعمل على تأجيج عدم الاستقرار في المنطقة له منطقه الذي يصح على تفاعلاتها بالذات مع هذا التطور، فلأن زيادة التواجد العسكري الأمريكي يثير مخاوفها خصوصاً بفعل هواجس شن هجوم عليها أو على منشآتها النووية فإيران ستبقي نفسها على أهبة الاستعداد ويدها على الزناد، وفي تحذير مبطن صرح مسؤول عسكري إيراني بأن الأسلحة والذخائر التي تمتلكها القوات الجوية الإيرانية "قادرة على تجاوز المنظومات الأميركية المتطورة بسهولة وإصابة أهدافها". والشكوك التي تثيرها هذه التحركات لدى إيران حول وجود تعاون وتنسيق بين دول الخليج والولايات المتحدة ستنعكس بالسلب على التقارب مع هذه الدول وفي إضعاف وتيرته، وبما يرفع من حظوظ عودة التوتر إلى العلاقة بينهما خصوصاً وهناك من القضايا والخلافات والمواقف المسبقة التي تحفز على عودة هذا التوتر، كالخلاف حول حقل الدرة، والمناورات الإيرانية الأخيرة التي انطلقت من جزيرة أبو موسى. ويفترض عموماً أن تظهر إيران نوعاً من المقاومة، لكن الراجح أنها مقاومة غير مباشرة من خلال وكلائها في المنطقة وعلى وجه الخصوص من خلال الجماعة الحوثية.
وستنعكس التحركات الأمريكية بدرجة أو بأخرى على مختلف الملفات في المنطقة وعلى رأسها الملف اليمني، وعلى الرغم من الافتراض الذي يرى أن التحركات العسكرية الأمريكية ستسهم من خلال ما تشكله من ضغوط على إيران والجماعة الحوثية في دفع مسار السلام باتجاه وقف الصراع، إلا أن الأمر قد ينتهي بنتيجة معكوسة على أساس أن هذه التحركات العسكرية ستجعل إيران أكثر تحفظاً وتمسكاً بالأسباب التي يفترض أنها تقف وراء تريثها وعدم استعجالها في حلحلة الملف اليمني وجعلتها حريصة على بقاء الأمور مراوحة حتى تتضح الرؤية حول ملفات أخرى، كالملف النووي. إن استخدام إيران للجماعة الحوثية وللملف اليمني لمقاومة التحركات الأمريكية له مؤشراته حتى اللحظة، ويظهر في المواقف التصعيدية الأخيرة للجماعة وفي عودة زعيم "حزب الله" اللبناني للحديث عن الأزمة اليمنية. فمع أن القوات الأمريكية متواجدة مسبقاً في البحار والممرات المائية حول اليمن ضمن تحالف القوات المشتركة، إلا أن الجماعة بدت أكثر استنفاراً، فقد حذر نائب وزير خارجية الحوثيين في صنعاء الولايات المتحدة وقال إنه "حرصاً على السلم والأمن الدوليين والحفاظ على سلامة الملاحة في البحر الأحمر يتوجب على القوات الأمريكية أن تبتعد عن مياهنا الإقليمية لأن أي اقتراب (فقط مجرد اقتراب) قد يعني بداية المعركة الأطول والأكثر كلفة في التاريخ البشري." وصدر عن قيادات حوثية أخرى تحذيرات وتهديدات للأمريكيين تربط تواجد القطع البحرية الأمريكية بالقرب من اليمن بمؤامرة تحاك ضد البلاد. والجماعة عموماً مستمرة منذ أسابيع في الحديث عن قدرات قواتها البحرية وتطورها وقدرتها على الوصول إلى أي أهداف في المياه والجزر اليمنية، ونقلت قناة المسيرة الحوثية عن قائد قوات الدفاع الساحلي لدى الحوثيين قوله: "نحن نراقب القوة الأمريكية منذ دخولها إلى قناة السويس واي اقتراب لتلك القوات من مياهنا الإقليمية فنحن جاهزون للرد والردع."