مقدمة
في حين أن من الصعب التنبؤ بالأثر الدقيق على المشهد اليمني، إلا أن من المؤكد أن تعكس الحرب في غزة نفسها بطرق مختلفة على الأوضاع في اليمن، سيحدث ذلك بسبب ما قد ينتج عنها من تراجع للاهتمام الإقليمي والدُّوَلي ومن تحويل للجهود وللموارد المادية والدبلوماسية بعيداً عن الملف اليمني. وكذلك نتيجة أي تأثير لها على الاقتصاد العالمي، وعلى الديناميكيات الإقليمية للصراع في اليمن. ويتوقف الكثير بشأن نتائج وتداعيات الحرب على تطورات الحرب نفسها، فكلما استمرت لفترة أطول وأخذت منحى تصعيدياً كلما تراجع ملف اليمن إلى الوراء في اهتمامات الإقليم والمجتمع الدولي، وكان لها تأثير أكبر على الاقتصاد العالمي وعلى العلاقات الإقليمية. وستبلغ التداعيات مداها حال توسعت الحرب وتحولت إلى حرب إقليمية ودخلت الجماعة الحوثية على خط المواجهة مع إسرائيل. وكلما أخذت الأحداث وجهة تصاعدية على هذا النحو زادت التداعيات الواقعة على المشهد اليمني وزادت حدتها، وكان لهذه الحرب عواقب أكبر وأخطر، وأدت إلى مزيد من التدهور السياسي والاقتصادي والإنساني في اليمن. وما يجعل هذه الحرب أكثر خطورة وأكثر قدرة على التأثير في محيطها أنها تتمتع ببعد عقائدي ولها بعد قومي عاطفي.
ملف الصراع: تكريس حالة اللاحرب واللاسلم
بما تضيفه من أسباب وظروف تدفع إلى تراجع زخم جهود السلام وتسهم في كبح أسباب التصعيد الميداني، تعمل الحرب في غزة على تكريس حالة اللاسلم واللاحرب التي تعيشها البلاد منذ أبريل 2022.
1. تراجع زخم السلام
تأتي هذه الحرب والعملية السياسة تمر بوقت حساس وبدأت فيه جهود ومفاوضات السلام تحقق بعض التقدم. وبغض النظر هذا التقدم وعن طبيعته، من المرجح أن تؤثر هذه الحرب على جهود ومفاوضات السلام نتيجة ما سينتج عنها من تحويل للاهتمام الدُّوَليّ والإقليمي ومن إعادة توجيه للموارد الدبلوماسية بعيداً عن الملف اليمني. فضلاً على ذلك ستكون الحرب سبباً يدفع الحوثيين (والإيرانيين من ورائهم) إلى التأني في المفاوضات مع السعودية أو تجميدها ريثما تتضح الرؤية حول وجهة الأحداث، ففي مثل هذه الظروف تزيد قيمة الورقة التي يمثلها الصراع في اليمن لهما ولمحور المقاومة وإبطاء عملية التفاوض أو تجميدها يحافظ على إمكانية استخدامها للمساومة والمقايضة إذا اقتضت الظروف بقدر ما يوصل بعض الرسائل والتحذيرات إلى الخصوم المفترضين.
2. جمود الوضع الميداني
تقلل هذه الحرب من فرص التصعيد العسكري في اليمن على أكثر من صورة:
- تخلق مزاجاً محلياً وإقليمياً ودولياً معارضاً للتصعيد، بحيث أن أي تصعيد أو أي رغبة في التصعيد سيواجه بمعارضة كبيرة.
- يعمل البعد القومي والديني في هذه الحرب على فرملة أي رغبة أو اندفاع للتصعيد لدى الأطراف المحلية والإقليمية المتورطة في الصراع اليمني باعتبار أن أي تصعيد سيُعد تشتيتاً لجهود الحرب مع إسرائيل وتوجيه النظر بعيدا عن "حرب مقدسة".
- قد تتأثر فرص الدعم اللوجستي وعمليات إمداد أطراف الصراع المحلية بالسلاح والذخيرة نتيجة الضغوط والتحديات التي تفرضها حرب غزة على الأطراف الإقليمية المتورطة في اليمن، فهي تحتم عليها التحوط والمحافظة على ومواردها العسكرية أو إعادة توجيه بعضها.
- قد يتم سحب بعض المقاتلين والخبراء الأجانب المنخرطين في صفوف الجماعة الحوثية أو بعضهم وقد يتم إرسال مقاتلين حوثيين إلى لبنان وسوريا.
- حتى اللحظة يبقى دخول الجماعة الحرب في مواجهة إسرائيل احتمالاً وارداً، لكنه مشروط باتخاذ إيران قراراً بذلك، وهو مؤكد حال دخلت هذه أو حزب الله الحرب. وكان زعيم الجماعة قد أعلن استعداده للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل إذا تدخلت فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر.
- ستشهد البلاد مزيداً من التدخلات العسكرية الخارجية حال توسعت الحرب وتحولت إلى حرب إقليمية تشمل إيران وحلفائها بمن فيهم الجماعة الحوثية التي ستتعرض في هذه الحالة لاستهداف من قبل إسرائيل وحلفائها.
تداعيات سياسية:
1. تحديات وضغوط لطرفي الصراع
سيواجه كل من السلطة الشرعية والجماعة الحوثية ضغوطاً إضافية نتيجة أي ضرر قد يلحق النشاط الاقتصادي ونتيجة أي تراجع للدعم الخارجي، وأيضاً بسبب الضعف الذي سيلحق جهود ومساهمات الإقليم والعالم في التصدي لآثار سنوات من الصراع وعدم الاستقرار الاقتصادي. وسيكون عليهما تعويض أي عجز في الإيرادات العامة والتمويلات الخارجية لتأمين النفقات التشغيلية الرسمية وتسيير الخدمات العامة الضرورية، وفشلهما في ذلك يزيد من تبرم الشارع وسخطه.
لكن السلطة الشرعية ستكون تحت ضغوط أكبر وستواجه تحديات أكثر، فموقفها المالي-مثلاً- وبحكم استمرار توقف تصدير النفط وتواضع إيراداتها غير النفطية سيتضرر كثيراً خصوصاً حال أوقفت الرياض مساعداتها المالية. وعلى غير ما عليه الحال بالنسبة للجماعة الحوثية، لا يصب تكريس حالة اللاسلم واللاحرب في مصلحتها، فاستمرار حالة كهذه لوقت أطول يهدد باتساع خلافاتها الداخلية وانقساماتها.
وبحكم أنها جزء من "محور المقاومة" فالجماعة الحوثية معنية أكثر من غيرها بهذا التطور، فهو يصب في صالحها لجهة ما يمثله لها من فرصة للاستثمار، حتى أنها أظهرت وأنصارها احتفاءاً لافتاً بعملية طوفان الأقصى وعدتها وتعاملت معها بصفتها انتصار لها. ومازالت الحرب في غزة فرصة للتخفيف من الضغوط التي يفرضها الشارع عليها اليوم لأسباب مختلفة يتعلق أهمها بمطالبتها دفع الرواتب، وأيضاً لإصلاح الضرر الذي لحق صورتها وعلاقتها بالشارع، وهي أيضاً فرصة للتحشيد والتجنيد ولجمع التبرعات بحجة دعم الشعب الفلسطيني.
غير أن حرباً كهذه تُمثَّل لها، من جهة أخرى، تحدياً واختباراً على أكثر من صورة: اختباراً لموقفها من القضية الفلسطينية، ولشعار الموت لإسرائيل الذي رفعته منذ نشأتها، واختباراً لتهديدها الدائم وتوعدها بمهاجمة إسرائيل ولترسانتها ومزاعمها امتلاك صواريخ بعيدة المدى تصل إلى الأخيرة. وكان الشارع اليمني والعربي أيضاً يتوقع منها الكثير في هذا الصدد. وما قامت به الجماعة أنها نظمت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والمناهضة لإسرائيل والغرب في مختلف مناطق سيطرتها، ودشنت حملة لجمع التبرعات، ودعت للتطوع والتدرب على القتال، وخرج زعيمها مهدداً بالدخول في الحرب حال تدخلت الولايات المتحدة فيها بشكل مباشر، وكان ذلك كل شي تقريباً. لم تكن ردود الفعل هذه بحجم التوقعات ولا بحجم الشعارات التي ترفعها، ولذلك فقد وجدت الجماعة نفسها محل تهكم وسخرية في الشارع اليمني والعربي، وكانت سبباً لإحباط أنصارها وحرجهم. ومن جهتهم وجد خصوم الجماعة في الحاصل موضوعاً لاستثماره ضدها واتهامها بـ"الانتهازية" و"المزايدة بالقضية الفلسطينية" ولإثبات "تبعيتها لإيران". وعليه فالجماعة أكثر الأطراف تضرراً من هذه الحرب على الصعيد السياسي والشعبي، لكن هذا قد يكون صحيحاً حتى الآن فقط، فمازال ثمة فرصة أمام الجماعة لعكس الصورة ولاستثمار هذا الحدث لمصلحتها، وسيحدث ذلك على وجه التحديد حال دخلت الحرب وشنت هجمات على الأراضي والمصالح الإسرائيلية أو استهدفت مصالح حلفائها.
2. أسباب إضافية لتوتر البيئة والعلاقات السياسية
من النادر أن تحظى أي قضية بإجماع في الساحة اليمنية إلا أن هذا لا ينطبق على القضية الفلسطينية، فاليمنيون يتوحدون حولها ويتشاركون اليوم ذات الموقف المؤيد والمتعاطف مع الفلسطينيين. ومع ذلك فالحرب في غزة وبقدر ما يفترض أن تكون سبباً للتهدئة تضيف أسباباً أخرى للتوتر في المشهد اليمني، وتقوم بذلك من خلال:
- الجدالات السياسية التي تتسبب في إثارتها والحوافز التي تؤمنها وتدفع إلى تبني مواقف مكرسة للتوتر والانقسام، فقد مثلت حتى الآن فرصة للنيل من الخصوم السياسيين والانتقاص منهم، فخصوم الجماعة الحوثية استثمروا هذا التطور والأحداث والمواقف المرتبطة به للنيل منها وللتشكيك في مواقفها السياسية والعقدية والأخلاقية، خصوصاً في ضوء تواضع رد فعلها الذي لا ينسجم وتبشيرها الدائم بنيتها وقدرتها على استهداف إسرائيل. ومن جهتها وجدت الجماعة فيه فرصة لتشديد قبضتها الحديدة في مناطق سيطرتها وأيضاً لمهاجمة وتهديد خصومها ممن تصفهم بأنصار التطبيع (هم في نظرها السعودية والإمارات، والقوى المرتبطة بها ومن يؤيد هذه القوى أو يتعاطف معها). وعلى سبيل المثال، علق القيادي في الجماعة ونائب وزير خارجيتها حسين العزي بقوله: "نعم ومن دون مواربة أو هوادة سنسحق كل غازي مطبع، وكل مرتزق وعميل للصهاينة على أرضنا المباركة". وبقدر ما يؤكد على الطبيعة الميليشياوية الاستبدادية غير التصالحية للجماعة الحوثية يضفي هذا الاستثمار للأحداث توتراً إضافياً على العلاقات السياسة الرسمية منها والشعبية.
- الدفع نحو مزيد من عسكرة المجتمع، فالجماعات الدينية على أنواعها تتخذ من هذه الحرب فرصة وسبباً لتجنيد مزيد من اليمنيين بحجة "الجهاد". فقد فتحت الجماعة الحوثية باب التجنيد للقتال في فلسطين، وشرعت في فتح معسكرات تدريبية للشباب، وتأمل وصول أعداد الملتحقين بهذه المعسكرات إلى مليون شخص. تجنيد كهذا مؤكد أيضاً من الجماعات المتطرفة الساعية دوماً إلى استقطاب وتجنيد المزيد من العناصر.
- ستسهم هذه الحرب بنتائجها السالفة وعن طريق ما قد تتسبب به من تدهور للأوضاع الاقتصادية والإنسانية في تعزيز أسباب التوتر للعلاقات السياسية وللأمن والسلم الاجتماعي، فهي تخلق بيئة مشجعة على للاضطراب وتنامي حركة الاحتجاجات المناهضة للسلطات.
تداعيات أمنية
ستساهم الحرب في حالة عدم الاستقرار الأمني عن طريق ما ستضيفه إلى أسبابها، وقد تمتد مفاعيل هذه المساهمات إلى الإضرار باستقرار المنطقة وطرق التجارة، وأهم هذه المساهمات:
- زيادة مخاطر الإرهاب، فالحرب تصب في اتجاه تقوية الجماعات المتطرفة التي ستكون متشجعة بما حققته حركة حماس في عملية طوفان الأقصى. فهذه الجماعات ستستغل هذه الجماعات مثل القاعدة في شبه جزيرة العرب الوضع لتعزيز موقفها الشعبي والمالي (جمع التبرعات)، وسيستغل المتطرفون الأحداث في غزة لتعزيز الأيديولوجيا الإرهابية وتجنيد عناصر جديدة، وقد تتخذ من هذه الحرب ذريعة لتنفيذ هجمات إرهابية داخل اليمن أو خارجة. ومن الوارد أن تستهدف الجماعات الإرهابية السفن في المياه الدولية حول اليمن. ويتوقع أن يزداد التعاون بين هذه الجماعات والجماعة الحوثية بحجة واحدية المعركة.
- خلق بيئة مشجعة لأنشطة التهريب غير المشروع للأسلحة والمخدرات وأعمال القرصنة البحرية.
- ستبلغ التحديات الأمنية ذروتها حال توسعت المواجهات إلى حرب إقليمية خصوصاً بسبب ما سينتج عن توسعها من تدهور للأوضاع الاقتصادية والإنسانية، وبسبب تراجع الموارد الذي سيعكس نفسه على المخصصات والقدرات الأمنية.
- زيادة التحديات والتوترات على الحدود، نتيجة التدفق العابر المتوقع للمقاتلين وتهريب الأسلحة والإرهابيين الذي سيزيد الأعباء التي يواجهها أمن الحدود. وقد يتم تعزيز الإجراءات الأمنية والعسكرية على الحدود مع اليمن ما قد يتسبب بنوع من التوتر في هذه المناطق.
- ومن نافل القول إن اليمن سيتأثر بأي تداعيات أمنية إقليمية قد تتسبب بها الحرب.
مفاقمة الأزمة الاقتصادية
من المتوقع أن تؤدي الحرب إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد وإلى مزيد من التدهور الاقتصادي نتيجة ما ستتسبب به من مخاوف وتراجع للثقة في اقتصاد البلاد ونظامها المصرفي، ويأتي أغلبها وأهمها نتيجة أي تأثير لهذه الحرب على الاقتصاد العالمي، سيحدث ذلك على نحو الترجيح إذا ما توسعت الحرب وتحولت إلى صراع إقليمي. وتأثر الاقتصاد العالمي سيحدث بسبب التهديدات التي ستواجهها الملاحة الدولية، وما سيصاحبها من زيادة في كلفة النقل والتأمين، وكذلك بسبب الاضطراب الذي قد يلحق توريدات وأسواق النفط وأسعاره سواء نتيجة لتأثر الملاحة الدولية أو بسبب أي تراجع في القدرات الإنتاجية لدول المنطقة. ومن شأن كل ذلك أن يتسبب بتدهور البيئة الاقتصادية الكلية وبدفع الاقتصاد العالمي إلى نوع من الركود. وتتمثل أهم التداعيات الاقتصادية لهذه الحرب فيما يلي:
- اضطراب سلاسل التوريد، وتضرر حركة الاستيراد والتصدير من وإلى البلاد نتيجة وتراجع النشاط والتبادلات التجارية في المنطقة وعبرها، وتضرر حركة الملاحة والتجارة الدولية وارتفاع الأسعار العالمية عموماً.
- تراجع الدعم الاقتصادي الخارجي المقدم لليمن، سواء كان ذلك في صورة مساعدات إنسانية أو دعم تنموي.
- تراجع تحويلات المغتربين التي تشكل مصدراً رئيسياً للعملات الأجنبية في البلاد نتيجة المخاوف من أن تؤدي الحرب إلى مزيد من الاضطرابات في اليمن.
- سينتهي كل ذلك بتراجع النشاط التجاري، وتأثر القطاعات المالية وتدهور في النظام المصرفي ما سينتهي بتراجع حركة رأس المال والنشاط الاستثماري الذي سيضيف إلى أسباب الركود الاقتصادي والتضخم وانخفاض قيمة العملة. وستحتاج السلطات في هذه الحال إلى تأمين موارد مالية إضافية لمواجهة التحديات الإنسانية والاقتصادية والأمنية المتزايدة، وهذا قد يؤدي إلى زيادة الديون العامة والتضخم. وعلى المدى المتوسط والبعيد سيؤثر كلما سبق سلباً على قدرة اليمن على التعافي الاقتصادي، خصوصاً ومفاعيل هذه التداعيات قد تستمر فترة طويلة بعد انتهاء الحرب.
تدهور الوضع الإنساني
من المرجح أن تمثل هذه الحرب انتكاسة للجهود التي تكافح للتعامل مع الأزمة الإنسانية في اليمن وتتسبب بتفاقمها وزيادة في حدة انعدام الأمن الغذائي ومخاطر المجاعة والأمراض. هذا سيحدث نتيجة:
- تراجع الجهود والتمويلات الإنسانية، فالحرب خلقت حتى الآن أزمة إنسانية إضافية في المنطقة (في غزة)، ما يعني مواجهة المنظمات الإنسانية والدول ضغوطاً إضافية، وإضعاف وتحويل الاهتمام بعيداً عن اليمن.
- التداعيات الاقتصادية لهذه الحرب: تضرر سلاسل التوريد وارتفاع أسعار النفط والنقل التجاري وبالتالي ارتفاع أسعار السلع الأساسية ونقص المواد الغذائية والأدوية في البلاد.