أعلنت الولايات المتحدة حشد المزيد من القوات والمجموعات القتالية الضاربة إلى المياه المحيطة بشبه الجزيرة العربية من البحر الأحمر وحتى الخليج العربي، فيما تقول أن ذلك يهدف لردع أي تصعيد للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة والذي قد يؤدي إلى حرب إقليمية واسعة.
وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول أعلن البنتاغون عن خطوات إضافية لتحقيق ذلك وتحسين وضع القوة الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط بما ذلك: أ) توجيه حاملات الطائرات يو إس إس دوايت ايزنهاور (USS Dwight D. Eisenhower-(CVN-69 ضمن مجموعة Carrier Strike Group2 (CSG) إلى منطقة تحت مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)- والتي تشمل المياه المحيطة بشبه الجزيرة العربية. ب) نشر أصول الدفاع الجوي الأمريكية في جميع أنحاء المنطقة لحماية القوات الأمريكية. ج) زيادة الاستعداد لنشر قوات أمريكية إضافية في المنطقة حسب الحاجة.
وعبرت القطع البحرية بالفعل قناة السويس باتجاه البحر الأحمر في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. وقال قائد المجموعة الأدميرال مارك ميجويز (CSG): سنعمل على الاستفادة من وجودنا في مسرح العمليات لتعزيز الأمن الإقليمي والعمل جنبًا إلى جنب مع حلفائنا وشركائنا.
وجاء الإعلان الأمريكي بعد يومين فقط من إعلان الولايات المتحدة تصدي المدمرة "يو اس اس كارني" (USS Carney) لهجوم يشمل صواريخ كروز وطائرات مسيّرة في البحر الأحمر كانت متجهة نحو جنوب إسرائيل أطلقها الحوثيون -المدعومون من إيران- من الأراضي اليمنية؛ الذين وعلى الرغم من عدم تبنيهم بشكل رسمي ذلك الهجوم، إلا أنهم تبنوا في الأسابيع اللاحقة هجمات متعددة باتجاه "إسرائيل" التي أعلنت تصديها لبعض الهجمات فوق مياه البحر الأحمر فيما سقطت الأخرى. وهددوا مراراً باستهداف السفن التجارية الإسرائيلية والبوارج والسفن العسكرية الأمريكية في البحر الأحمر وخليج عدن. ودائماً ما كان الحوثيون مثار قلق للأمن البحري منذ سيطرة على صنعاء في سبتمبر/أيلول2014م، حيث اختطف الحوثيون الأحد ١٩ نوفمبر/تشرين الثاني سفينة شحن في البحر الأحمر أثناء إبحارها من تركيا إلى الهند.
وليس الحوثيون وحدهم من يهدد "إسرائيل" والقوات الأمريكية، بل معظم حلفاء في إيران في المنطقة. حيث يهدد حزب الله بالدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل في جنوب لبنان مع استمرار العمليات وتبادل القصف بينهما على الحدود. وتنفذ الجماعات الشيعية الموالية لها في العراق وسوريا، عمليات منظمة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول على القدرات والقواعد العسكرية الأمريكية. ويمكن أن تؤدي الهجمات، فضلاً عن مخاوف الحرب الأوسع، إلى عكس الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة لتقليل الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط كجزء من استراتيجية الانتقال نحو المحيط الهادئ .وفيما كان متوقعاً ارسال البنتاغون المزيد من القوات نحو "المتوسط" ؛ إلا أن إرسال حاملة طائرات ومجموعة هجومية إلى البحر الأحمر تحول جديد تجاه واحدة من نقاط الاختناق الرئيسية التي كانت جزء من لعبة الاستراتيجيات خلال الحرب الباردة (1945-1989).
فكيف يؤثر النشر الأمريكي للقوات في البحر الأحمر على استراتيجية الولايات المتحدة؛ وما دلالات النشر الأمريكي للقوات في البحر الأحمر وتداعياته على اليمن والمنطقة؟
اهتمام متأخر
لم تكن الولايات المتحدة تولي اهتماماً بمنطقة البحر الأحمر خلال العقد الماضي؛ فعلى الرغم من نمو التهديدات في السنوات الأخيرة بما في ذلك الحرب في اليمن ومخاطر الاستخدام الإيراني لحلفائهم الحوثيين للتأثير على الملاحة الدولية؛ والخلافات الخليجية (2017-2022) التي أثرت على استراتيجياتها في شرق أفريقيا المطلة على الممر البحري، وزيادة القواعد العسكرية متعددة الجنسيات قرب مضيق باب المندب، فإن الولايات المتحدة لم تتخذ أي إجراءات لمعالجة هذه التطورات بشكل مناسب. وهو ما أحبط محاولاتها تحقيق أهداف استراتيجية في المنطقة وأفقدها ثقة حلفائها الخليجيين خاصة مع نزوع الإدارات الأمريكية الثلاث الأخيرة على الانسحاب من المنطقة قبل الحرب الروسية في أوكرانيا 2022م. حتى جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة- المدعومة دون شروط من واشنطن- وتعرض حليفتها الرئيسية لتهديدات إيرانية بدخول فاعلين إقليميين آخرين بشن هجمات على "إسرائيل" وعلى القوات والمصالح الأمريكية في المنطقة إذا ما استمرت حربها في قطاع غزة.
قبل أشهر من الحرب الإسرائيلية الحالية في قطاع غزة، كانت الولايات المتحدة تعزز وجودها بالفعل، في محاولة لتعزيز مكانتها وأدوارها وإعادة ضبط علاقاتها بالمنطقة بعد التطورات التي شهدتها المنطقة والعالم، خاصة التقارب السعودي الإيراني الذي تم برعاية صينية والحرب الروسية في أوكرانيا، وبالتحولات في ديناميات علاقة دول المنطقة بالقوى العظمى. ففي أغسطس/آب أعلن الأسطول الأمريكي الخامس في البحرية الأمريكية عن وصول أكثر من 3000 جندي أمريكي على متن السفينتين الحربيتين: يو إس إس باتان، ويو إس إس كارتر هول. وفي يوليو/تموزأعلنت عن قرار نشر قوات إضافية بما في ذلك الآلاف من مشاة البحرية (المارينز) ومقاتلات إف-35 وإف-16بالإضافة إلى المدمرة يو إس إس توماس هاندر. وفي أواخر مارس/آذار قامت الولايات المتحدة بإرسال طائرات عسكرية إلى المنطقة، ووفقاً للمسؤولين العسكريين في البنتاغون من المخطط أن يكون لهذه القوات الإضافية تواجد دائم في المنطقة.
لكن بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول أعلن البنتاغون إرسال قوة ضاربة تضم مجموعتين من حاملات الطائرات تحمل كل منهما حوالي 7500 فرد، وسفينتان برمائيتان تابعتان للبحرية، ومجهزتان بآلاف من مشاة البحرية، وعبرتا إلى البحر الأحمر في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني. وتنضم إلى مجموعة أيزنهاور الهجومية في البحر الأحمر أربعسفن حربية: باتان، وكارتر هول، وهودنر، وكارني. كما كشف البنتاغون أن غواصة من طراز أوهايو – وهي سفينة تعمل بالطاقة النووية – عبرت قناة السويس. ويمكن للغواصات من هذا الطراز أن تحمل 154 صاروخ توماهوك كروز. وعادة ما تعمل الغواصات، التي تسمى أحيانًا "الخدمة الصامتة"، سرًا. ونشرت وزارة الدفاع هذه البيان متعمدة لتأكيد وجودها في المنطقة. وتقول واشنطن إن نشر قواتها على طريق ممر التجارة الدولية في البحر الأحمر والخليج العربي، يأتي استجابة للتحديات الأمنية وحماية حليفتها "إسرائيل"، إلى جانب حلفائها الخليجيين.
ويعتبر ذلك تحولاً كبيراً في الاهتمام الأمريكي بالبحر الأحمر، على الرغم من أنه غير واضح، ويستمر في ربطه بإيران والمخاوف الإقليمية منها، وليس مصلحة أمريكية دائمة؛ لكنه في نفس الوقت يشير إلى إمكانية تغيّره في أولويات الردع الأمريكية ولو كان الأمر بطيئاً.
البحر الأحمر في أولويات الردع الأمريكية
وستعمل المجموعة الهجومية الكبيرة التي نشرتها الولايات في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني في المنطقة تحت القيادة المركزية الأمريكية "سينتوم" (CENTCOM) التي لا يوجد في مهمتها أنها تتعامل مع منطقة البحر الأحمر في أولوياتها للردع. إذ اقتصرت مهمتها خلال العقد الماضي على ردع إيران من الحصول على القنبلة النووية، وحل للوضع في أفغانستان، ومواصلة حملة هزيمة داعش في العراق وسوريا، ومواجهة تهديد الطائرات بدون طيار. كما أن بيان موقف القيادة المركزية الأمريكية لعام 2023 يظهر أن افتقار القيادة الأمريكية للاهتمام بالممر البحري واضح وضوح الشمس. حيث كانت الإشارة الوحيدة للبحر الأحمر في البيان تتحدث حول إكمال فرقة العمل 59 تمريناً بحرياً دولياً ضمن 50 دولة والتي جرت في الخليج العربي وبحر العرب وخليج عمان والبحر الأحمر والمحيط الهندي. وحتى اليمن فإن الإشارة إلى الحرب قرب مضيق باب المندب تهدف فقط إلى تسليط الضوء على قدرة إيران على زعزعة الاستقرار والتحريض على شن هجمات على شركاء الولايات المتحدة وتهديد عشرات الآلاف من الأمريكيين في الخليج "إلى أن ساعدت الولايات المتحدة في تأمين الهدنة في اليمن كانت إيران تستخدم اليمن بانتظام كأرضية اختبار للطائرات المسيّرة"؛ وهي إشارة واضحة إلى أن النظام الإيراني توقف عن استخدام اليمن كأرضية للمسيّرات بعد التوصل لهدنة ابريل/نيسان 2022! وهي معلومات غير دقيقة.
وبالإضافة إلى قلة الاهتمام على مستوى القيادة العسكرية العليا (CCMD) ليس لدى "سينتوم" قيادة على مستوى العمليات الثانوية في منطقة البحر الأحمر. باختصار، ليس لدى "سينتوم" الرغبة أو المهمة أو منظمة القيادة الحالية للتعامل مع منطقة البحر الأحمر. وتشير دراسة داخلية للقوات الأمريكية حول البحر الأحمر، أن القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (AFRICOM)- وخاصة قوة المهام المشتركة في القرن الأفريقي (CJTF-HOA)- هي القيادة الوحيدة الموجودة التي يمكنها تولي السيطرة على ساحة البحر الأحمر؛ لكن هيكلها الحالي لا يدعم هذه المسؤولية. وتم إنشاء قوة المهام هذه (CJTF-HOA) في 2002 نتيجة هجمات 11 سبتمبر/أيلول لإجراء عمليات منظمة متطرفة لمكافحة العنف في شرق أفريقيا، وهي مسؤولة عن 12 دولة في شرق إفريقيا، ومجال اهتمامها (AOI) يشمل تسع دول إضافية والتي تضم دول منطقة البحر الأحمر الموجودة في منطقة مسؤولية "أفريكوم".
وفي الوقت الحالي توجد معظم القواعد والمنشآت العسكرية الأمريكية في المنطقة قرب البحر الأحمر، إما في دوله الساحلية أو في منطقته الفرعية تحت القيادتين المركزيتين "سينتوم" و"أفريكوم"، في "جيبوتي، الصومال، الأردن، إسرائيل، والسعودية"، وتوجد المنشآت والقواعد في المنطقة الفرعية للممر المائي من ناحية القرن الأفريقي في "كينيا وأوغندا"، وقرب مياه الخليج العربي: قطر، عمان، الكويت، الإمارات، العراق. لكن اهتمامها بأمن البحر الأحمر تضاءل تدريجياً منذ الحرب الباردة حتى أصبح "فراغاً" عززت خلاله دول أخرى من وجودها قرب مضيق باب المندب بقواعد عسكرية أو بوجود عسكري بحري متزايد. حيث تركز "أفريكوم" و"سينتوم" على منطقة المحيط الهندي والخليج العربي، وبدرجة أقل بكثير على البحر الأحمر.
ولأجل ذلك ترى تلك الدراسة الداخلية إنشاء قيادة جديدة باسم قيادة شرق أفريقيا والبحر الأحمر (EARSCOM) وتكون قوة المهام (CJTF-HOA) أساسها مع حل مشكلة الموظفين في هذه القوة. وإضافة دول تتضمن، على الأقل، الدول التالية: جيبوتي، إثيوبيا، إريتريا، كينيا، الصومال، والسودان، من منطقة مسؤولية أفريكوم واليمن، ومصر، إسرائيل، الأردن، الكويت، عمان، قطر، المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة والبحرين من منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية "سينتوم". وإضافة دول أخرى أفريقية وشرق أوسطية ومرتبطة بالبحر الأحمر كمجال اهتمام مثل (جنوب السودان وتركيا وأوغندا. إلى جانب منح القيادة الجديدة المقترحة سلطة اتصال مباشر مع "سينتوم" أو أن تقدم تقاريرها إلى "أفريكوم" و"سينتوم". ولن تجد فرقة المهام (CJTF-HOA) صعوبة في التأقلم إذا أنه بعد أن بدأت أفريكوم عملياتها في 2008 عملت قوة المهام المشتركة (CJTF-HOA) تحت كل من "أفريكوم" و"سينتوم" مع مسؤوليات في كل من القارة الأفريقية واليمن.
تحول في الاستراتيجية الأمريكية في البحر الأحمر
تحت هذا الوضع الضعيف عملياً في مياه البحر الأحمر، وقِلة الاهتمام من القادة العسكريين الأمريكيين بوضع أمن الممر المائي الحيوي في أولوياتها، تظهر استراتيجية الردع الأمريكية في المنطقة مختلة، وتجعل من التحشيد للمنطقة دون تكتيك يستعرض القوة ما يثير غضب الحكومات والسكان في المنطقة. إذ يمكنه أن يبعث رسالة اطمئنان لإسرائيل بأن واشنطن تغامر من أجلها؛ لكنه يزيد التوتر في منطقة مشحونة تدفع معها "نقطة الغليان" الحالية إلى الانفجار ليس فقط في شبه الجزيرة العربية بل حتى في الطرف المقابل من البحر الأحمر في أفريقيا -مصر والسودان على وجه خاص. وبهذا التحشيد يشبه الاستراتيجيون وضع المنطقة بالحرب الباردة (1945-1990)، إذ يغامر بدخول فاعلين إقليميين دوليين آخرين في البحر الأحمر من خارجه؛ كما يزيد من العمليات البحرية العسكرية للدول التي تملك قواعد عسكرية ويحوله إلى نقطة احتكاك قد توصل إلى شكل من أشكال حرب الناقلات؛ إضافة إلى ما يمثله الاستقطاب المحموم بين الشرق والغرب على الاستقرار الداخلي والإقليمي لدول المنطقة.
ومنذ انتهاء الحرب الباردة كانت الاستراتيجية الأمريكية في البحر الأحمر تقوم على أساس: حماية مرور إمدادات الوقود والتجارة، حماية إسرائيل، مواجهة القرصنة البحرية، مواجهة الإرهاب، ومواجهة إيران. لكن في العقد الماضي تراجعت هذه الأسس للاستراتيجية الأمريكية، بسبب:
- تحرر الولايات المتحدة من الحاجة إلى تأمين وحماية إمدادات النفط من المنتجين في دول الخليج بعد أن أصبحت مصدراً للطاقة، إذ انخفضت حصة وارداتها من منظمة أوبك (التي تهيمن عليها دول الخليج) من 85٪ إلى 14٪. والتي تمر عبر مضيق باب المندب. على الرغم من أن معظم دول الخليج ما زالت تعتمد على التأمين الأمريكي.
- تراجعت التهديدات التي تواجه الاحتلال الإسرائيلي من البحر الأحمر إلى الصفر تقريباً.
- تراجعت القرصنة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن من الناحية الأفريقية من تهديد كبير يواجه الشحن عبر مضيق باب المندب عام 2008 حتى تكاد تختفي في 2022م.
- اهتمت الولايات المتحدة بالحملة على داعش في العراق وسوريا، والانسحاب من أفغانستان، وبدرجة أقل بتنظيم القاعدة في اليمن وشرق أفريقيا خاصة بعد التقارير عن إضعافها.
- انحدرت مسألة المواجهة مع إيران وتوسعها في المنطقة، إلى هدف منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، والذي بدا واضحاً في توقيع الاتفاق النووي مع إيران2015 (الذي انسحب منه دونالد ترامب في 2021)، وتحاول إدارة بايدن العودة إليه.
وعلى الرغم من هذه المتغيّرات إلا أن الولايات المتحدة استمرت في تأكيد التزامها بأمن البحر الأحمر والمنطقة، إلا أنه كان واضحاً في العقد الأخير انسحابها، خاصة مع الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان 2021 الذي سبقه توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وظهر في ردة الفعل الأمريكية الضعيفة على هجمات الحوثيين والإيرانيين على السفن التجارية التي تمر عبر البحر الأحمر، والهجمات على المنشآت المدنية الحيوية في السعودية والإمارات. وبينما كانت تدير وجهها للشرق الأوسط كانت تتجه لـتركيز أولوياتها لاحتواء النفوذ الروسي في شرق أوروبا وآسيا الوسطى، والصعود الاقتصادي الصيني، والمخاطر المترتبة على أمنها القومي وسياستها الخارجية، وما تصفه "بالنظام العالمي القائم على القواعد" التي وضعها الغرب في عالم من قطب واحد.
لكن المخاطر ظهرت مجدداً في البحر الأحمر، فمع الحرب الروسية في أوكرانيا (2022)، ونتائج السياسات الأمريكية الخاطئة التي ارتكبتها في المنطقة: خوض عدة حروب، والمواقف الضعيفة تجاه قضايا الأمن القومي للمنطقة، وعدم حل القضية الفلسطينية لصالح دعم الاحتلال الإسرائيلي والذي أوصل لنتائج اليوم. يمكن أن نحدد أولويات الولايات المتحدة في البحر الأحمر في الوقت الحالي على الآتي:
- حماية إسرائيل والقوات الأمريكية: لم يكن هذا المبدأ ليصعد إلى أولويات المتحدة إلا في أكتوبر/تشرين الأول (2023)، مع التهديد الذي يواجه "زوال إسرائيل"، والتهديد بشن هجمات تستهدفها في ظل حربها الوحشية على قطاع غزة. لذلك حشدت أكثر من 17 ألف جندي للمنطقة في محاولة لطمأنة الاحتلال الإسرائيلي بمزيد من الحماية ما يعادل ضعف القوة الموجودة قبل السابع من أكتوبر. إلى جانب توفير الحماية للقوات الأمريكية في المنطقة (الخليج وشرق أفريقيا) وقواتها البحرية في البحر الأحمر من الاستهداف بعمليات تشنها إيران أو وكلائها الحوثيين من اليمن.
حيث تخشى الولايات المتحدة من هجمات انتقامية تستهدف قواتها في المنطقة، مع تنامي غضب الشعوب العربية من دعمها غير المحدود لإسرائيل، وتجاهلها لنداءات حلفاءها بوقف إطلاق النار ضد الفلسطينيين.
ومن أجل حماية إسرائيل قد تدفع الولايات المتحدة حلفائها في المنطقة إلى بناء شبكات إنذار مبكر للصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة على أراضيهم، سواء تلك القادمة من إيران أو من اليمن. كما تشير استراتيجيتها للدفاع الوطني2022 إلى خطط: "إنشاء شبكة من قدرات الدفاع الجوي والصاروخي في جميع أنحاء الشرق الأوسط لتسهيل تعاون أكبر مع تعزيز الدفاع من خلال نهج متعدد الطبقات". ودائماً ما كانت إسرائيل والولايات المتحدة حريصتان على أن تكون هناك أنظمة انذار مبكر في دولة الإمارات في حال شنت إيران هجمات على "إسرائيل". يضاف ذلك إلى أن البنتاغون ستدفع بتعزيزات أخرى تشملأنظمة الدفاع الصاروخي على ارتفاعات عالية وأنظمة الدفاع الصاروخي باتريوت، وأسراب مقاتلة إضافية.
- عمليات نقل الأسلحة الإيرانية: عادة ما استخدمت إيران البحر الأحمر لنقل الأسلحة إلى جماعة الحوثي المسلحة، ما منح الجماعة اليمنية التفوق في الحرب الأهلية بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. وليس الحوثيون فقط بل إن البحر الأحمر كان محطة لتهريب الأسلحة للمقاومة الفلسطينية عبر السودان في عهد الرئيس عمر البشير، والتي انضمت للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في 2020م.
لن تستثني المراقبة السفن والقطع البحرية الإيرانية التي تبحر أو قريبة من المنطقة. بما في ذلك سفينة الشحن "بهشاد" الإيرانية الموجودة قرب البحر الأحمر والتي حلت كبديل لسفينة "سافيز"في أغسطس/آب 2021م، بعد قيامها بدوريات في المنطقة منذ 2016، بعد أن أصيبت بهجوم بحري يعتقد أن إسرائيل وراءه قبل 4 أشهر من استبدالها. ويقول المسؤولون الأمريكيون إن الحرس الثوري يستخدم "بهشاد" -كما سافيز- لجمع معلومات استخباراتية في الممر المائي لمساعدة حلفاء إيران الحوثيين في اليمن. وفرض الرئيس السابق دونالد ترامب عقوبات على السفينتين في 2018 كجزء من حملته القصوى للضغط على إيران.
- احتواء روسيا والصين: يبدو أن الاستراتيجيين الأمريكيين شعروا بمدى التهديد الذي تمثله العودة الروسية وتزايد النفوذ الصيني في المنطقة ومكانة البحر الأحمر في استراتيجيتهما العالمية. ما يعيد إلى أذهانهم -بدفع من حلفائهم الأوروبيين- الحرب الباردة وعمليات البحرية الحمراء في البحر الأحمر.
حيث حددت استراتيجية البيت الأبيض 2022 الصين وروسيا كتحديات خطيرة للأمن القومي الأمريكي ولسياسة واشنطن الخارجية. على الرغم من أنها أشارت أن جهودها المستقبلية لمواجهة النفوذ الصيني والروسي في أعالي البحار تركز على المحيط الهندي والمحيط الهادئ. إلا أنه انعكس بشكل أو بأخر على استراتيجيتها في المنطقة، في مبادئ خمسة تركز: على الردع، وتعزيز قدرة الشركاء، وتمكين التكامل الأمني الإقليمي، ومكافحة التهديدات الإرهابية، وضمان التدفق الحر للتجارة العالمية. وتقول: لن تسمح الولايات المتحدة للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتهديد حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب، ولن تتسامح مع جهود أي دولة للسيطرة على دولة أخرى – أو السيطرة على المنطقة - من خلال القوة العسكرية أو زيادة الوجود العسكري في المنطقة أو التهديدات.
- حماية ميزاتها: يعتبر إعادة نشر القوات في أعالي البحار والمحيطات، ترسيخ لقوة الردع التي كادت تفقدها واشنطن بسبب سياستها في المنطقة خاصة في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة قوية وذات نفوذ عالمي سياسي واقتصادي بفضل تحالفاتها. لذلك فإن استراتيجيتها في البحر الأحمر ستكون ضمن هدفها بعدم خسارة الميزات التي سيطرت عليها منذ 1945م، لصالح منافسيها الجدد: "حيث تدور المنافسة حول العالم لكتابة قواعد جديدة تحكم التجارة والاستثمار الدوليين والسياسة الاقتصادية والتكنولوجيا اقتصادية وتشكيل العلاقات التي تحكم الشؤون العالمية في كل منطقة عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والدبلوماسية والتنمية والأمن والحوكمة العالمية"- كما تقول استراتيجية البيت الأبيض 2022.
كما أن استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي لا تفصل بين استراتيجيتها لمواجهة لنفوذين الروسي والصيني والتحديات الأمنية في المنطقة، والتي قالت إنها ستواجها "بشكل فعال، وطرق مستدامة. بتعزيز التكامل الإقليمي من خلال بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاءها وفيما بينهم، بما في ذلك من خلال هياكل دفاع جوي وبحري متكاملة". وهو ما يلزم وجود أمريكي لفترة أطول في المنطقة حتى لا تحل روسيا أو الصين أو حتى بريطانيا كبديل لها في المنطقة.
لذلك زاد النشاط الأمريكي/الغربي/الخليجي في البحر الأحمر قبالة اليمن منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، مدفوعة بمخاوف الوصول الروسي إلى الموانئ السودانية، وتطمين الحلفاء الخليجيين بالبقاء في المنطقة وتأمين النفط. كما أعلنت الولايات المتحدة عن خططها لإنشاء تحالف ردع خليجي مع الاحتلال الإسرائيلي لمواجهة إيران وحلفائها. وبعد "اتفاقيات إبراهام"، نقل البنتاغون إسرائيل من القيادة الأوروبية للولايات المتحدة إلى القيادة المركزية الأمريكية لتعزيز تعاون أوثق بين دول الخليج وإسرائيل. وأجرت الإمارات والبحرين مع إسرائيل عدة تدريبات مع إسرائيل في البحر الأحمر.
وأنشأت الولايات المتحدة فرقة العمل المشتركة (CTF) 153 للتركيز على الأمن البحري "وجهود بناء القدرات في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن"، وهي جزء من القوات البحرية المشتركة (CMF) التي يقع مقرها الرئيسي في المنامة. وستكمل جهود فرق العمل الثلاث (CTF 150 و 151 و 152) التي تعمل بالفعل تحت قيادة البحرية المشتركة.
أولويات الردع الحالية: لا تشمل إيران
وفي أعقاب الحرب على غزة، هددت عديد من الجماعات المسلحة التابعة والمدعومة من إيران في جميع أنحاء المنطقة - من حزب الله إلى الحوثيين – إسرائيل والولايات المتحدة. وفي بداية الحرب حذر التلفزيون الرسمي الإيراني من هجمات على إسرائيل من جبهات متعددة في حلقة النار المحيطة بها، إذا ما استمرت الحرب الوحشية على قطاع غزة. وزعم التلفزيون أن الحوثيين في اليمن يمتلكون صواريخ يصل مداها إلى أكثر من 1200 ميل. وهو ما حدث بالفعل لاحقاً عندما تبنى الحوثيون هجمات في 31 أكتوبر/تشرين الأول، وفي 2 و6 نوفمبر/تشرين الثاني على الرغم من أن "إسرائيل" اعترضت بعضها فيما سقط البقية في البحر الأحمر أو في صحراء الأردن. في 27 أكتوبر ضربت انفجارات نويبع وطابا في جنوب سيناء المصرية. ولم يعلق الحوثيون رسميا على الحادث وقال الجيش المصري إن الهجوم كان قادماً من جنوب البحر الأحمر باتجاه الشمال. جاء ذلك بعد أسبوع (19 أكتوبر) من إطلاقهم صواريخ كروز وطائرات بدون طيار باتجاه إسرائيل – اعترضتها السفينة الحربية يو إس إس كارني في البحر الأحمر.
وفي ١٩ نوفمبر /تشرين الثاني أعلن الحوثيون خطفهم سفينة في البحر الأحمر، وقال المتحدث باسم قوات الحوثي يحي سريع " سنستهدف جميع السفن التي تملكها أو تشغلها الشركات الإسرائيلية أو التي تحمل العلم الإسرائيلي"
ولم يكن التهديد يأتي من اليمن وحدها، فمع تقدم العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة تعرضت الولايات المتحدة -وحتى إسرائيل- لهجمات متكررة بطائرات دون طيار وصواريخ في الشرق الأوسط؛ وأدت إلى تحقيق إصابات في القوات الأمريكية أو تهديدها في العراق وسوريا والبحر الأحمر. لذلك ترى الولايات المتحدة أن حشد قواتها في المنطقة يدعم فكرة الردع التي تتبناها مع "تل أبيب" في المنطقة والتي ترجمها بايدن بزيارة إسرائيل مع بدء العمليات العسكرية في قطاع غزة.
لذلك فإن أولويات الردع الأمريكي مع هذا التحشيد العسكري، هو تعزيز حماية "إسرائيل" إزاء التهديدات التي تمثلها الجماعات الموالية لإيران-وليس النظام في طهران بشكل مباشر-، وليس مرتبطاً بحماية حلفائها الخليجيين بقدر ما يعنى بحماية القوات الأمريكية الموجودة فيها. كما أنه يحاول ملء الفراغ الذي تركته واشنطن، ويضيق على السياستين الصينية والروسية التي زادت حميمية مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين خلال السنوات الأخيرة؛ ويبطئ الاستراتيجيتين البحرية والاقتصادية لموسكو وبكين اللتان وضعتا البحر الأحمر في أولوياتهما العقد الماضي.
من هذا المنطلق فإن الوجود الأمريكي الجديد سيتركز في البحر الأحمر، ويكون أكثر مرونة للانتقال من وإلى البحر الأبيض المتوسط مع المخاوف من دخول حزب الله في حرب مع "إسرائيل" وفي حال توسعها بدخول جمهورية مصر وإغلاق قناة السويس. لذلك ستنتشر معظم القوات في مياه شبه الجزيرة العربية من جهة البحر الأحمر إلى خليج عدن، أكثر من كونه وجود في غرب المحيط الهندي والخليج العربي لمواجهة إيران.
ويشير البيت الأبيض إلى ذلك بوضوح أن الهدف الأطراف الأصغر -الوكلاء والحلفاء لإيران-؛ إذ لا يبدو أن إدارة بايدن ترى وجود توجيه إيراني للعمليات التي تتم من اليمن وسوريا والعراق، أو لها يد كبيرة فيها. أما إذا كانت إيران هي تدير حلفائها في غرفة عمليات مشتركة تدعى "وحدة الساحات" لاستهداف القوات الأمريكية فلا يريد البيت الأبيض مناقشته. وعندما سئلت الإدارة الأمريكية في 19 أكتوبر/تشرين الأول -عقب التصدي لهجوم الحوثيين في البحر الأحمر- إذا رأت الإدارة "أي صلة بين الهجمات في اليمن وسوريا والعراق في هذه المرحلة، وإيران من ناحية التوجيه أو يد أكبر في توجيه الهجمات"، فإن السكرتير الصحفي للبنتاغون لم يذكر إيران، وأجاب بدلاً من ذلك: "أعتقد أننا ننظر لها كعمليات تتم بشكل فردي." لذلك يبدو أن هذا التحشيد يستهدف تحييد والانتقام من الجماعات التابعة والمتحالفة مع إيران بما في ذلك الحوثيين في اليمن والاستعداد إذا تدخلت دول وأطراف أخرى. وتقدم القطع البحرية التي وصلت البحر الأحمر صورة لطبيعة هذا الانتقام والتي يغلب عليها الصفة الهجومية.
حيث تتكون المجموعة الهجومية Carrier Strike Group (CSG) 2 التي دخلت البحر الأحمر مطلع نوفمبر/تشرين الثاني من: حاملة الطائرات الرائدة USS Dwight D. Eisenhower (CVN 69)، وطراد الصواريخ الموجهة USS Philippine Sea (CG 58)، ومدمرة الصواريخ الموجهة USS Mason (DDG 87). ) وUSS Gravely (DDG 107) من السرب المدمر (DESRON) 22، وجناح الناقل الجوي (CVW) 3بأسرابه التسعة، ووحدة قائد حرب المعلومات. كما نشرت طائرات مقاتلة من طراز F-35 وF-15 وF-16 وA-10لتكملة الطائرات الموجودة بالفعل في المنطقة. كما أعلنت "إسرائيل" نشر طرادات من طراز "ساعر" في البحر الأحمر، بعد إعلان الحوثيين شن هجمات يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول. ما يجعل الوجود الأمريكي في منطقة البحر الأحمر الأكبر منذ عقود، حتى خلال حقبة الحرب الباردة.
هل تؤثر المتغيرات على اليمن؟
على الرغم من أن التحشيد الأمريكي في البحر الأحمر أهدافه متعددة-كما أسلفنا-، إلا أن الهجمات التي تبناها الحوثيون على إسرائيل كانت المبرر لإرسال هذه القوات. في الوقت نفسه يدرك الأمريكيون أن الحوثيين يريدون من إعلان الحرب على الاحتلال ثلاث نقاط رئيسية: تأكيد أنهم جزء من محور المقاومة التابع لإيران وفي تنسيق كامل معه، وبإمكانهم المبادرة لدعم هذا المحور وليس تلقى الدعم التسليحي والمالي فقط. ما يعني فرض أنفسهم كجزء من المحور حتى ولو كان تأثيرها في الحرب الإسرائيلية دون جدوى إذ أن معظم الصواريخ الباليستية والمسيّرات إما سقطت قبل وصولها إلى جنوب "إسرائيل" أو اعترضتها الدفاعات الإسرائيلية.
النقطة الثانية، زيادة شعبيتهم في البلاد مع تزايد فقدانهم للأنصار والشعبية بشكل كبير خلال العامين الماضيين، في محاولة للحصول على مشروعية للبقاء في السلطة- خاصة مع افتقارهم للمشروعية الدولية- وتقديم خصومهم وداعميهم الخليجيين كمساندين للاحتلال الإسرائيلي. أما مدى نجاحهم في هذه النقطة فيبقى محل شك.
النقطة الثالثة، يريد الحوثيون تقديم أنفسهم كقوة كبيرة قادرة على تحويل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى حريق إقليمي، وهو ما يضغط على المخاوف الدولية -الخليجية والأمريكية على وجه الخصوص- لدفعهم لبناء اتفاق يلبي شروطهم في اليمن.
وعلى النقيض من حلفاء إيران في العراق وسوريا، يبدو أن الحوثيين يتعمدون استهداف "إسرائيل"-التي لن تؤثر عليها الهجمات-، وليس القوات الأمريكية أو قواعدها في المنطقة، خشية من ردة فعل واشنطن على الجماعة إذا تشير التقارير أن البيت الأبيض توعدهم بالرد السريع.
بالمقابل ما الذي ستفعله الولايات المتحدة في اليمن؟
مع مضي أكثر من شهر على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا يبدو أن الولايات المتحدة غيرت من سياستها في اليمن؛ وستستمر القوات الأمريكية في التنسيق مع حلفائها في المنطقة خاصة الدول التي توجد فيها قواعدها، لمزيد من الحماية عبر منظومة الدفاع الجوي "ثاد" والمعلومات المخابراتية. كما ستستمر في جمع المعلومات عبر الأقمار الصناعية والطائرات دون طيار عن الحوثيين وتحركات قواتهم، وأسلحتهم المتطورة مع مراقبة كاملة للجزر اليمنية على البحر الأحمر. وقد أدى ذلك إلى إسقاط الحوثيين طائرة أمريكية دون طيار من طراز "MQ9" يوم 09 نوفمبر/تشرين الثاني.
لكن قد يتغيّر ذلك بناء على تطور هجمات الحوثيين، وحجم الأضرار التي تحدثها في إسرائيل- مع ضعف حدوث ذلك بقوة الحوثيين الحالية-. أو قيام الحوثيين بتنفيذ تهديداتهم باستهداف الملاحة في البحر الأحمر -بما في ذلك مهاجمة السفن الإسرائيلية- أو استهدفت القوات الأمريكية، أو قواعدها العسكرية القريبة في دول الخليج العربي وشرق أفريقيا. ونتوقع أن تكون السياسة الأمريكية تجاه الحوثيين كالتالي:
- استمرار الضغط على الحوثيين عبر رسائل دول ثالثة وتحذيرهم من شن الهجمات على الاحتلال الإسرائيلي، فحتى لو كانت ذات آثار ضعيفة إلا أنها تدفع بجزء من الدفاعات الإسرائيلية إلى جنوب إسرائيل بعيداً عن مسارح الحرب الأخرى، كما أنه يضع القوات الأمريكية في حالة تأهب لرصد مسار الاطلاق واعتراضها إن أمكن من البحر الأحمر.
- تنفيذ هجمات سريعة وحاسمة على الأراضي اليمنية لتدمير البنية التحتية التي يستخدمها الحوثيون لتخزين وتركيب وإطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات دون طيار. وارتفعت أصوات تطالب بالردع الأمريكي ضد الحوثيين في مجلس الشيوخ بعد اسقاط "MQ9".
- على الرغم من أن إدارة بايدن لم تغيّر سياستها تجاه الحوثيين بعد الهجمات الأخيرة، إلا أن الأصوات بدأت تتعالى في الكونجرس الأمريكي ومجتمع خبراء الأمن الأمريكيين يدعون الآن إلى اتخاذ موقف أمريكي أكثر صرامة تجاه الحوثيين. ويؤكد البعض أن إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار يربط الجماعة بقوة باستراتيجية "وحدة الساحات" الإيرانية التي تستهدف القوات والوجود الأمريكي في المنطقة. وبالتالي تبرير إعادة الحوثيين إلى القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية الأجنبية (FTO ). وبالفعل بدأت التحركات في الكونجرس في مشروع قرار يطالب بإعادتهم بعد أن أخرجتهم إدارة بايدن عام 2021 بعد أسابيع من وضع إدارة ترامب لهم في تلك القائمة. ويحمل هذا التصنيف في طياته عقوبات اقتصادية أمريكية كبيرة على الحوثيين بشكل رئيس وعلى اليمن بشكل عام.
يمكن ضبط معظم التصعيد فيما يخص اليمن في البحر الأحمر: إذ ستحرص المملكة العربية السعودية والحكومة اليمنية على التهدئة، كما أنه ليس من مصلحة الحوثيين تعريض أنفسهم لعمليات عسكرية واسعة داخل الأراضي اليمنية، كما ستحرص الولايات المتحدة على بدء إجراءات سياسية في واشنطن قبل تنفيذ عمليات قصف واسعة على اليمن يمكنها أن تدفع الحوثيين للتراجع عن شن عمليات بحرية. لكن قد يكون هناك عوامل خارجية مع توسع الحرب واطالة أمدها في قطاع غزة.
حيث قد تدفع إيران وإسرائيل، الولايات المتحدة إلى حرب في البحر الأحمر مستخدمة القوة الهجومية التي حشدتها. إذ تملك "تل أبيب" وطهران تاريخاً سيئاً من الصراع السري في أعالي البحار واستهداف سفن الشحن: منذ عام 2021،قامت إيران بمضايقة أو مهاجمة أو الاستيلاء على ما يقرب من 20 سفينة تجارية ترفع علمًا دوليًا-عدد منها مملوك لشركات أو رجال أعمال إسرائيليين-؛ خلال 2019-2020 قصفت إسرائيل ما لا يقل عن 12 سفينة في طريقها إلى سوريا، معظمها كان يحمل النفط الإيراني. إلى جانب الهجوم على "سافيز" الراسية في البحر الأحمر. ويملكالحوثيون -أيضاً- تاريخاً من استهداف السفن، ويمكن أن توجههم إيران لشن هجمات في حال تعرضت لهجمات بحرية.
وبوجود إسرائيل وإيران في البحر الأحمر فإن احتمال الصراع البحري لا يبدو بعيداً. ففي أكتوبر/تشرين الأول نشر تلفزيون إيراني ناطق بالعربية عن عملية بحرية استهدفت قاعدة عسكرية استخباراتية إسرائيلية في أرخبيل دهلك التابع لإرتيريا والقريب من اليمن- لم يتبن الحوثيون الهجوم، ولم يعلق الإسرائيليون عليه. لكن يعتقد الإسرائيليون أن الهجوم حدث عبر السفينة الإيرانية "بهشاد" الموجودة بين اليمن وارتيريا.
استراتيجية أم ردة فعل؟
ولا يبدو أن التحشيد بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ينم عن استراتيجية أمريكية، واضحة المعالم على المدى المتوسط، بل تبدو كرد فعل مرتبطة بمخاوف القيادة الأمريكية من تعرض "إسرائيل" لخطر كبير إما من المجموعات الموالية لإيران، أو من قِبل الدول العربية. لكنها في الوقت ذاته غامرت بتداعيات سيئة على سياستها الخارجية وعلاقتها بالجيل الحالي والقادم من السياسيين والشعوب في العالم العربي، بما في ذلك حلفائها في الخليج الذين لم تحرك الولايات المتحدة حاملات طائرات وهذا العدد من القطع البحرية والقوات، عندما كان أمنها القومي معرض للخطر. كما أن دول شبه الجزيرة العربية تعرف جيداً أن التحشيد الأخير في البحر الأحمر وخليج عدن غير مرتبط بالأمن القومي للمنطقة بل لحماية القوات والتجارة الأمريكية وحماية "إسرائيل".
ومنذ انتهاء الحرب الباردة تناقص تدريجياً الاهتمام الأمريكي بأمن البحر الأحمر، وترك دون اهتمام أو استراتيجية واضحة؛ وعاد الاهتمام بالممر المائي كردة فعل على سياقات عالمية تخشى واشنطن من أن تؤدي لفقدانها التحكم برسم السياسات العالمية، والامتيازات التي تحصل عليها من خلالها بعد عقود من الهيمنة على السياسة العالمية. لذلك فإن نشر القوات يجعل واشنطن أما اختبار حقيقي لتحويل ردة الفعل هذه والتحرك البطيء إلى استراتيجية متعلقة بأمن البحر الأحمر تكون فيها شريك مع الحلفاء والدول المطلة عليه لتأمين مرور التجارة العالمية، فليس من مصلحة الدول هذه تحول البوابة الجنوبية للبحر الأحمر إلى نقطة احتكاك وتوتر بين الدول العظمى، أو دول في المنطقة تسعى للحصول على مكاسب من خلال توجيه رسائل عبر مضيق باب المندب. ولا يبدو أن التحشيد الأمريكي بالسلوك الحالي يخدم الاستقرار في البحر الأحمر.
وتبرر الولايات المتحدة نشر القوات بكونه جهود لمنع توسع الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين عبر وكلاء إيران في الشرق الأوسط؛ دون النظر إلى أن وحشية العمليات التي تقودها إسرائيل على قطاع غزة ؛ قد تدفع باتجاه توسع الحرب في الإقليم وقد تظهر جماعات جديدة تهدف للانتقام. كما أن نشر القوات وتأييد الإسرائيليين تخسر مقابله واشنطن في المنطقة على الآجال القريبة والمتوسطة، كما أن استمرار الحرب يوماً يقرب حدوث حرب إقليمية أكثر. وبدلاً من إثارة المخاوف بحرب إقليمية يجب على واشنطن إيقاف الحرب في قطاع غزة والضغط على الإسرائيليين الالتزام بقرارات الأمم المتحدة لحل القضية الفلسطينية.
ولأن الإدارة الحالية لا ترى ضلوع إيران بشكل مباشر في الهجمات على قواتها وعلى الاحتلال الإسرائيلي، فلن توجه ضربات للحرس الثوري داخل إيران، إذ ستوجه ضرباتها إلى حلفاءها في المنطقة كما يحدث في الوقت الحالي في العراق وسوريا. بينما ستستمر القوات الأمريكية في البحر الأحمر في رصد تحركات الحوثيين وجمع المعلومات المخابراتية، وزيادة المراقبة البحرية لمنع وصول الأسلحة الإيرانية إلى الجماعة، وتفتيش الجزر اليمنية منعاً لحدوث هجمات على سفن الشحن الإسرائيلية والأمريكية والغربية عبر الألغام أو القوارب الانتحارية المسيّرة عن بعد أو بعمليات قرصنة بحرية؛ وسيعتمد الرد الأمريكي في اليمن على مدى خطورة وتطور هجمات الحوثيين.
وستحاول الولايات المتحدة ضبط النفس، وعدم الانجرار إلى أي هجمات واسعة رداً على هجمات تتعرض لها هي -أو إسرائيل- في الممر المائي. لكن سياقات الحرب وتوسعها، قد يؤدي لدفعها من قِبل الإسرائيليين والإيرانيين إلى خوض هجمات واسعة ضد الحوثيين؛ في حال فشلت الإجراءات السياسية والعقوبات على قادة الجماعة، والتهديدات عبر الأطراف الثالثة إلى الجماعة في صنعاء.
في الوقت نفسه لن تغامر في الوقت الحالي بإعادة الحوثيين إلى قوائم الإرهاب خاصة مع إمكانية تحقيق اتفاق سلام يمكن أن يؤدي إلى إيقاف الحوثيين لتهديداتهم للملاحة والإسرائيليين.
ويتوقع أن تزيد واشنطن من التنسيق العسكري في المنطقة مع بناء منظومات دفاعات جوية، وأجهزة رصد وانذار مبكر للصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة في دول المنطقة، في مسعى لحماية قواتها في الشرق الأوسط، وحماية "إسرائيل". لكنه لن يؤدي إلى توقيع اتفاقيات أمنية موسعة كما تأمل الإمارات والسعودية، أو الحصول على قدرات عسكرية كالتي تملكها "إسرائيل".
ستؤجل إسرائيل الرد على الحوثيين، حتى انتهاء حربها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. فعلى الرغم من أن هجمات الجماعة المسلحة من اليمن تفشل في الوصول إلى أهدافها -حتى الآن- لكنها عقب الحرب ستبني استراتيجيتها للعودة إلى البحر الأحمر وإعادة بناء قيادة خاصة بالبحر الأحمر لمواجهة أي خطر في المستقبل من اليمن؛ وستزيد من تحالفها مع الإمارات العربية المتحدة لتحقيق أهدافهما في اليمن.