مقدمة
عينت إيران مؤخراً سفيراً جديداً لدى جماعة الحوثيين في اليمن، وذلك بعد ثلاث سنوات من وفاة سفيرها السابق، وتأتي هذه الخطوة في وقت حساس تمر فيه المنطقة بمرحلة حرجة، وتواجه فيه إيران تحديات داخلية وخارجية متعددة. يتناول هذا التحليل سياقات هذا التطور وحيثياته ودلالاته، والأهداف الإيرانية المحتملة من وراء خطوتها هذه، والرسائل التي ترغب في إيصالها وإلى من، بالإضافة إلى نتائجه وتداعياته المتوقعة يمنياً وإقليمياً.
أولاً: سياق ودلالات الخطوة الإيرانية
على مدار السنوات القليلة الماضية، شهدت منطقة الشرق الأوسط تطورات وتحولات كبيرة في علاقات الفاعلين الإقليميين وتفاعلاتهم. وكان أبرزها التقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية، والذي تم تتويجه باتفاق بوساطة صينية لإعادة العلاقات الدبلوماسية في مارس 2023. هذا التقارب يعكس تحولاً في نهج كلا البلدين، خاصة بعد عقود من التنافس والصراع بالوكالة في عدة مناطق، أهمها اليمن.وتعيين سفير جديد لدى الجماعة الحوثية قد يشير في هذه الحالة إلى فتور وتوتر تعاني منه علاقة إيران بالسعودية، وإلى مراوحة التقارب وعدم تحقيق تقدم ملموس على النحو الذي كان الطرفان يتأملانه، هذا إذ لم يشر إلى حدوث انتكاسة في هذا التقارب.
تشكل الحرب في غزة حدثاً خطيراً يضع المنطقة وعلاقات الفاعلين فيها على أعتاب تحولات خطيرة، فقد دشن حالة صراعية متوسعة تتزايد مخاطرها على إيران وحلفائها، وتضعهم بصورة غير مسبوقة في مواجهة قابلة للانفجار مع خصومهم، وتثبت كل يوم أنها قد تتحول بين لحظة وأخرى إلى حرب صريحة وشاملة. وهي لذلك بحاجة لتعزيز التضامن بين أعضاء المحور وفقاً للمبدأ الذي يطلق عليه هؤلاء "وحدة الساحات". فقد جرت هذه الحرب حلفاء إيران إليها وتورط هؤلاء فيها بدرجة أو بأخرى، غير أن الحوثيين ظهروا أكثر جرأة من بقية أعضاء محور المقاومة، وكان تدخلهم أكثر فاعلية وتأثير، وبقدر ما يجعلهم هذا الوضع تحت ضغوط أكبر ويعرضهم لمخاطر أكثر تستدعي الوقوف إلى جانبهم، أكسبهم شعبية واسعة في المنطقة، عدا أنه يكسبهم ثقة أكبر في أنفسهم ويعزز هامش الاستقلال عن إيران ومحور المقاومة، وهذا مما يتسبب بإثارة حفيظة طهران أو بالأصح مخاوفها من أن يتحول الحوثيون إلى حالة يتعزز فيها شعورهم بالثقة بالنفس إلى الدرجة التي تدفعهم للتعامل مع إيران كند لا كوكيل. خصوصاً وعدم تعيينها سفيراً جديداً لها في صنعاء على الرغم من مرور ثلاث سنوات على وفاة سفيرها السابق كان نوعاً من الخذلان، أو على الأقل هكذا ما يفترض أن الحوثيين شعروا به. والأهم من ذلك أن إيران من خلال تورط الحوثيين اكتشفت ما يمكن أن يقوم به هؤلاء وقيمة الورقة التي يمكن أن يمثلونها لها في المواجهة مع القوى الغربية التي أثبتت بدورها موقفاً باهتاً وغير متماسك في حماية الملاحة الدولية وحماية مصالحها في مواجهة الحوثيين. وكل ذلك يجعلها تدرك أن الإحجام عن تعيين سفير بديل لم يكن خطوة موفقة، وأنها بحاجة لتصويب هذا الأمر. ومن جهة، تسببت هذه الحرب وتطوراتها ولا بد بفتور العلاقة مع السعودية وأكسبتها نوعاً من التوتر، بسبب المواقف الفاترة للأخيرة من هذه الحرب وتطوراتها، بما في ذلك عدم اضطلاعها بدور في الضغط على إسرائيل عدا عن إحجامها عن تقديم المساعدة للفلسطينيين. سبب أخر لتوتر هذه العلاقة هو خطط التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وهي خطط تهدد بتقويض الحجج والفلسفات التي يقوم عليها "محور المقاومة" من الأساس. وهكذا فطهران بحاجة للضغط على السعودية وتهديدها، وليس أفضل من القيام بذلك من خلال الجماعة الحوثية.
يأتي تعيين إيران سفيراً جديداً لدى الحوثيين في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية عليها، سواء فيما يتعلق ببرنامجها النووي أو بدورها في النزاعات الإقليمية. وفي وقت يشهد فيه العالم تصاعداً للتنافس بين الولايات المتحدة وبين الصين وروسيا، وهو تنافس يعكس نفسه على المنطقة، ويفتح للقوى الإقليمية باباً للفرص وآخر للمخاطر. وإيران كغيرها معنية بتعزيز موقفها واستغلال الفرص الناجمة عن هذه التحولات، وكذلك بمواجهة المخاطر الصريحة والمحتملة، وتعزيز وجودها الدبلوماسي في اليمن يظهر أنها لا تزال لاعبا رئيسيا لا يمكن تجاهله، وأنها قادرة على التأثير في مسار الأحداث في المنطقة، وبالتالي كقوة جديرة بثقة المنافسين الجدد للقوى الغربية. وفي السياق اليمني، تدرك إيران أن النزاع لن يستمر إلى الأبد، وأنه سيتوقف في نهاية المطاف. وفي ظل الجهود المستمرة لإيجاد حل سياسي للصراع، يهمها أن يكون لها صوت مؤثر في أي تسوية مستقبلية، ووجود سفير في صنعاء وبقرب صانع القرار الحوثي سيضمن اتصالاً وتواصلاً أوثق وعن كثب بما يجري، ويتيح فرص أكبر للتأثير وتوجيه الأحداث. وبطبيعة الحال مازالت هذه الخطوة تشير إلى أن طهران لا تزال عازمة على لعب دور رئيسي في تحديد ملامح المستقبل السياسي لليمن، وفي الحفاظ على نفوذها هناك مثلما في المنطقة الأوسع. وهكذا فإيران تجد نفسها مدفوعة ومن كل اتجاه صوب الجماعة الحوثية.
وفي الدلالة العامة، تشير هذه الخطوة إلى وضع وظروف تعيشها إيران وتختبرها أقل ما توصف بها أنها غير مواتية، وأن ما يجري حولها لا يسير في مصلحتها ويفرض عليها ضغوطاً كبيرة. وتؤكد إيران من خلال خطوتها هذه على بقاء مواقفها وسياساتها على حالها دون تغيير، وعلى أنها ماضية فيها وملتزمة بها، على الرغم من تقاربها مع جيرانها ومن حاجتها لرفع العقوبات المفروضة عليها، وتحسين الأوضاع الاقتصادية المنهارة.
ثانيا: الأهداف الإيرانية من تعيين السفير
وعلى أساس تلك السياقات والحيثيات يمكن تصور عدد من الأهداف التي تتوخاها هذه الخطوة الإيرانية، على النحو التالي:
- تعزيز التضامن داخل "محور المقاومة"
تعتبر إيران نفسها قائداً لمحور "المقاومة" في المنطقة، وهي قيادة تعطيها أو تضمن لها نفوذاً كبيراً على الساحة الإقليمية، وهي بتعيين هذا السفير في صنعاء لا تعزز علاقتها بالحوثيين أو تؤكد التزامها بدعمهم فقط، وإنما تهدف أيضاً إلى التقليل من فرص تنامي حس الاستقلال لديهم، ومن وفرص ابتعادهم عنها تحت وقع الشعور بالزهو والقوة بفعل تلك المكاسب الإعلامية والشعبية التي حققوها مؤخراً نتيجة دخولهم الجريء على خط الحرب إلى جانب الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل. كما تؤكد من خلال هذه الخطوة التزامها بدعم حلفائها في المنطقة عموماً.
- التأثير على مفاوضات السلام في اليمن
ترغب إيران في التأثير في مجريات الأحداث في اليمن، وأن تكون لها كلمة مؤثرة في أي تسوية سياسية مستقبلية هناك، وبما يحافظ على مصالحها الإقليمية، وهذا لن يكون سهلاً في ظل غياب دبلوماسي إيراني رفيع في صنعاء.
- ممارسة الضغط
تتوخي إيران من خلال خطوتها هذه ممارسة الضغط على السعودية ودول الخليج، وتحذيرها من تبني سياسات غير صديقة أو تضر بإيران وحلفائها. كما تستهدف الضغط على المجتمع الدولي وتحذيره من الإقدام على التصعيد ضدها أو ضد حلفائها.
- توجيه رسائل إلى الحلفاء والخصوم
إيران من خلال هذه الخطوة، توجه عدة رسائل وباتجاهات مختلفة: إلى حلفائها وخصومها، مثل السعودية والولايات المتحدة، وإلى المجتمع الدولي، وإلى الداخل الإيراني.
- إلى الحلفاء الإقليميين
مفاد الرسالة التي تريد إيصالها إلى هؤلاء أن طهران مازالت ذلك الحليف الموثوق، وأنها إلى جانبهم في مواجهة التحديات المشتركة، ملتزمة بدعمهم.
- إلى السعودية
الرسالة التي توجهها طهران إلى السعودية مفادها أن إيران لا تزال قادرة على تهديدها والإضرار بها وتحريك الحوثيين ضدها إذا لم تغير مواقفها أو على الأقل إذا أقدمت على تبني مواقف سياسات مضرة بها بما في ذلك التعاون أو الاشتراك في أي خطط للإضرار بها أو للحرب عليها، خصوصاً مع إسرائيل والولايات المتحدة.
- إلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي
تفيد الرسالة التي تريد توجيهها إلى هؤلاء أن إيران لن تتخلى عن دعمها للحوثيين، وأنها قادرة من خلالهم على الإضرار بصورة أكبر بالتجارة والاقتصاد العالميين حال استمرت العقوبات والضغوط المفروضة عليها أو حال التوجه نحو فرض المزيد منها أو نحو التصعيد ضدها.
- إلى الداخل الإيراني
يواجه النظام الإيراني تحديات وضغوط اقتصادية وسياسية داخلية كبيرة، بما في ذلك حالة السخط الشعبي المتنامية والوضع الاقتصادي الصعب. ومن خلال هذه الخطوة تحاول الحكومة الإيرانية توجيه رسالة إلى شعبها بأنها ما زالت قوية وقادرة على لعب دور قيادي في المنطقة، وأنها تواصل الدفاع عن مصالح البلاد على الساحة الدولية، وذلك على أمل المساعدة في تهدئة التوترات الداخلية والمساعدة في تعزيز شرعية النظام أمام الرأي العام الداخلي.
ثالثاً: التداعيات المحتملة
- زيادة التوترات الإقليمية
تثير هذه الخطوة الإيرانية مخاوف وتوجسات دول المنطقة وعلى رأسها السعودية والإمارات، اللتين تعتبران الحوثيين تهديداً مباشراً لأمنهما، ولذلك فهي لا تهدد التقارب الهش مع السعودية ودول الخليج فقط، ولكنها ستتسبب بإرباك العلاقات الإقليمية، وزيادة التوترات في المنطقة عموماً.
- تعقيد جهود السلام في اليمن
خطوة كهذه من قبل طهران قد تزيد من تعقيد المشهد في اليمن، بما في ذلك من خلال تعقيد الجهود المستمرة للأمم المتحدة وغيرها من الجهات الدولية الساعية لإيجاد حل سلمي للنزاع اليمني، فبالإضافة إلى التوتر الذي ستتبب به مع السعودية والمخاوف التي تثيرها وتثير حلفائها، تشكك هذه الخطوة بنوايا إيران وجدية التزامها بالسلام، وتجعل الحوثيين أقل استعداداً للتنازل أو القبول بحلول وسطية، مما يضيف عوائق في طريق السلام ويزيد من أمد النزاع. لكن ليس من المحتمل أن تؤدي هذه الخطوة إلى تصعيد في الأعمال العسكرية في الساحة اليمنية، كما قد يتوقع البعض.
- زيادة الضغوط الدولية على إيران نفسها
من المرجح أن يؤدي قرار طهران بتعيين سفير جديد لها في صنعاء إلى زيادة الضغوط الدولية عليها، خاصة من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وقد تواجه مزيداً من العقوبات. ومع ذلك، قد ترى طهران في هذه الضغوط فرصة لتعزيز خطابها الداخلي حول "مقاومة" الضغوط الأجنبية والتمسك بمواقفها المبدئية.
خلاصة:
يعكس تعيين إيران لسفير جديد لدى الحوثيين أوضاعاً وسياقات محلية وإقليمية ودولية غير موائمة لإيران وتفرض عليها ضغوطاً متزايدة. وفي مواجهة كل ذلك، تريد ظهران من خلال هذه الخطوة تحقيق عدد من الأهداف وإيصال عدد من الرسائل إلى مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، وبالذات إلى كل من السعودية والولايات المتحدة، وإلى حلفائها الإقليميين، وأيضاً إلى الداخل الإيراني. وفي المجمل، يعكس هذا التطور التزامها بدعم حلفائها الإقليميين، وإصرارها على مواصلة استراتيجيتها لبناء النفوذ والسيطرة على المنطقة من خلال وكلائها المحليين. وتحمل هذه الخطوة معها مخاطر وتحديات عدة، وقد تؤدي إلى مزيد من التوترات الإقليمية.