تمهيد
خلال شهر يشاهد العالم تغيراً سريعاً في خارطة النفوذ الإيراني، فقد شكل انهيار نظام بشار الأسد الذي حكمت عائلته سوريا نصف قرن، تحولا مفاجئا، بعد أسابيع من انهيار واضح لقوة حزب الله في لبنان.
في سوريا سيطرت المعارضة المسلحة على العاصمة دمشق، وفّر "بشار الأسد" في الثامن من ديسمبر/كانون الأول إلى موسكو، لتتغيّر معها الخريطة الجيوستراتيجية للسيطرة والتنافس في المنطقة وربما العالم.
أثبت النظامان الروسي والإيراني حليفا الأسد أنهما مشتتان ومنهكان، وغير قادرَين على توفير تدخلٍ عاجلٍ يُنقذ قلعتهما الرئيسية في الشرق الأوسط كما حدث في 2015م؛ وبدا محور المقاومة الذي تقوده طهران منذ أكثر من عقدين في أسوأ أحواله، ما يجعله يكافح من أجل التكيّف مع المتغيّرات الإقليمية الجديدة.
كانت هذه الموجة، هي واحدة من ضربات الثورة السورية ضد حكم الأسد الاستبدادي، فقد بدأ في مارس/آذار 2011 فيما عُرف بالربيع العربي، وتحول إلى حرب بالوكالة مما أدى في النهاية إلى مقتل قرابة مليون سوري، وأكثر من 12 مليون لاجئ، حيث ساعدت إيران والميليشيات الشيعية الموالية لها في استقرار النظام حتى مع استخدامه للأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وبدا أن الأسد فاز في الحرب مع توقيع اتفاق استانة برعاية تركية وروسية وايرانية (2020).
في الأعوام الأخيرة، بدأت الدول العربية إعادة إدماج الأسد في نظام الجامعة العربية، في محاولة لإبعاده عن النفوذ الإيراني و"محور المقاومة" الذي تقوده طهران، وتعتبر دمشق مكون رئيسي داخل المحور، إلى جانب جماعة الحوثي من اليمن التي عززت وجودها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بشن هجمات في البحر الأحمر وخليج عدن، ضد السفن التجارية، فيما يقولون إنه ضمن جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية ضد الجرائم الوحشية للاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
هذه التطورات، تحمل في طياتها تداعيات عميقة على توازن القوى في المنطقة، خاصة على محور المقاومة وجماعة الحوثي في اليمن، تسعى هذه الورقة إلى تحليل هذه التطورات وتقييم آثارها المحتملة على اليمن والمشهد الإقليمي.
دوي سقوط نظام الأسد في موسكو وطهران
في يوم الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، شنت الفصائل المسلحة السورية هجومًا منسقًا، استهدف مواقع خاضعة لسيطرة النظام، ومواقع للميليشيات الإيرانية في ريف حلب الغربي شمالي سوريا، في أول عمل عسكري مشترك للمعارضة السورية منذ 2016، وأطلق عليها "عملية ردع العدوان"، وأكد بيان للعملية أن الهجوم كان ضروريًا بسبب تحركات النظام الأخيرة التي تهدد المناطق المدنية، ووضع العملية كضرورة دفاعية وليس خيارًا استراتيجيًا.
توالت العملية العسكرية، ومضت قُدماً وسيطرت على مدينة "حلب" في اليوم التالي، إلى جانب مناطق أخرى في "إدلب"، انهارت وحدات الجيش السوري بسرعة مدهشة ما أحدث زلزلاّ دفع قوات المعارضة إلى التقدم بسرعة نحو المناطق الحضرية ودفع القوات النظامية للوراء، حتى السيطرة على دمشق وهروب الأسد، وهذا الزلزال الكبير يكافح الجميع لفهم كيفية حدوثه بما في ذلك المؤلفون الرئيسيون لهذه الخطة والتحرك.
تألفت المعارضة السورية من عديد من الجماعات المسلحة، تقودها "هيئة تحرير الشام" المعروفة سابقًا باسم جبهة النصرة، والتي كانت تابعة لتنظيم القاعدة، لكنها أعلنت إنهاء علاقتها رسمياً في 2017م، إلى جانب "الجيش الوطني الحر"، وجماعات مسلحة أصغر. وبرز أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) كقائد للعمليات العسكرية للمعارضة مؤكداً أن الهدف هو إسقاط نظام الأسد[1]، وتشكيل حكومة تتوافق مع تطلعات الشعب السوري.
أبرزت العملية العسكرية نقاط ضعف بنيوي عاشها نظام الأسد، كان من المعروف وجودها لكن لم يُقدر حجمها وعمقها، ولم يكن الجيش قادراًً على القتال وهو في وضع سيء ومعظم القوات من المجندين، وفقد الجيش أكثر من 100 ألف جندي خلال الحرب الأهلية، فلم يساعد بشار الأسد نفسه خلال 14 عاماً، ولم يتراجع عن الغرور المكتسب من القوة والتدمير، كما أن العقوبات الإقتصادية والغارات الإسرائيلية، دمرت الإقتصاد وبنيّة النظام العسكرية، ومعظم المنشآت الإيرانية في البلاد، ورفض الاستجابة لمطالب شعبه وحلول وضعت أمامه من تركيا والإقليم والعالم.
إلى ذلك برزت قدرة الفصائل المسلحة على إعادة رص صفوفها والتوحد نحو هدف جمعي لإحداث تغيير في السيطرة هو الأول منذ 2016، إذ ظلت المعارضة السورية حبيسة خلف خطوط مواجهة جامدة، ويشير قدرتها على شن هجوم استباقي، إلى أن هذه الفصائل وخاصة هيئة تحرير الشام كانت تخطط لهذا الهجوم منذ فترة طويلة، وهذا ليس نتيجة ثانوية لشهر أو شهرين، بل ربما منذ عامين؛ وكانت على معرفة جيدة بنقاط ضعف نظام الأسد.
كما تشير إلى تأثير الظروف الإقليمية والدولية المتغيرة حيث يأتي الهجوم في وقت يواجه فيه حلفاء الأسد ضغوطاً متزايدة، فالداعمون الرئيسيون لحكومة الأسد على المستويين الإقليمي والعالمي منشغلون في مكان آخر.
سحبت روسيا معظم قواتها من سوريا في السنوات الثلاث الماضية مع الحرب في أوكرانيا، واستهدفت إسرائيل بشكل منهجي الأصول الإيرانية في سوريا، خاصة في العام الماضي، كما استهدفت وحدات حزب الله، التي لعبت دوراً محوريا في السماح لبشار الأسد ليس فقط بالبقاء، ولكن في الأساس هزيمة معظم المعارضة، وكانت إيران بدأت سحب معظم قوتها من سوريا العام الماضي بسبب تلك الإستهدافات اليومية. وحزب الله سحب معظم القوة التي كانت هناك بسبب الهجمات الإسرائيلية، ثم الحرب الإسرائيلية في الجنوب[2]. وكانت الجماعة اللبنانية عنصرًا رئيسيًا بين قوات إيران والتي مكنت الأسد من الاستيلاء على الأراضي والحفاظ عليها من المعارضة، كما أنه يأتي ذلك أيضًا عشية الإدارة الثانية للرئيس المنتخب دونالد ترامب[3]، الذي فرض في السابق سياسة الضغوط القصوى على إيران، وشن غارات جوية ضد الأصول العسكرية للحكومة السورية، وقَتل قائد فيلق قدس قاسم سليماني، وكان يعتبر الزعيم الإيراني قائداً لمحور المقاومة إلى جانب حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وقاد المعارك ضد الثوار السوريين في حلب عام 2015، إلى جانب الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والإيرانية.
على الرغم من تأكيد موسكو وطهران أنهما ستدعمان "بشار الأسد" بالمساعدات العسكرية والدبلوماسية، كما فعلوا منذ 2011م، لكن لم يكن هناك ما يشير إلى دعم هذا الخطاب من خلال وقف تقدم المعارضة، خاصة وأن أيا منهما لم يلتزم بإرسال قوات برية لدعم الأسد الذي تراجع جنوده بسرعة للوراء[4].
قدمت الطائرات الحربية الروسية الدعم للجيش في حماة وحلب وإدلب، لكن ليس بقوة كافية لإحداث تأثير، كما قدمت إيران وعداً فاتراً بالنظر في طلبات إرسال القوات[5]، ولكن ليس الدعم المؤكد الذي كان يعول عليه الأسد لوقف الهجوم، رغم مقتل القائد البارز للحرس الثوري الإيراني الجنرال كيومرز بورهاشمي[6].
لعبت الظروف الإقليمية ضد نظام الأسد الذي كان يرمي بثقل بقاءه في السلطة على حلفائه: ميليشيا حزب الله اللبنانية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والنظام الإيراني، إذ تلقوا خلال العام الماضي -بدرجات متفاوتة- ضربات استراتيجية تجعل سوريا عرضا جانبيا في أحسن الأحوال، في حين تظهر تركيا، الداعم الرئيسي للمعارضة أكبر المستفيدين، حيث تستعد لإعادة 3 ملايين لاجئ إلى مناطقهم، وربما تكتسب منطقة عازلة على الحدود منعاً لهجمات الأكراد، وبدرجة أقل قطر الدولة الخليجية التي رفضت الاعتراف بنظام الأسد وسلمت السفارة للمعارضة منذ 2011م، رغم رياح التطبيع الخليجية التي اتجهت إلى نظام الأسد.
تبدو إيران أكبر الخاسرين من سقوط الأسد، وبدرجة أقل روسيا، لكنها تبقى انتكاسه استراتيجية هائلة. يعتمد مدى الضربة التي تعرضت لها موسكو على ما إذا كانت قادرة الحفاظ على بقاء قاعدة حميحيم وميناء طرطوس التي تواجدت فيهما منذ عقود.
لقد حاولت روسيا تأمين الوصول البحري إلى ميناء طبرق في ليبيا، لكنها لم تطور بعد البنية التحتية التي كانت تمتلكها هناك في سوريا. تعرضت روسيا، مثل إيران، للإذلال بسبب انهيار عميلهما الرئيس "بشار الأسد" كما أنهما تواجهان الآن أعداء من الشعب السوري الذي ساعدت الدولتان في قمعه[7].
يعتمد مدى الضربة التي تعرضت لها موسكو إلى حد كبير على ما إذا كانت روسيا قادرة على الحفاظ على سيطرتها على قواعدها البحرية والجوية في سوريا، ومع ذلك، فقد تعرضت القوة الروسية وهيبتها ونفوذها في الشرق الأوسط والعالم لضربة كبيرة.
خلص العديد من الروس إلى أن الحرب الناجحة للغاية في سوريا من 2015 إلى 2020، كانت اختبارا للحرب الأخيرة التي لا تزال مستمرة في أوكرانيا، كان من الأفضل أن يأملوا أن يكون التشبيه إما أكثر محدودية أو أقل قابلية للتطبيق مما كانوا يعتقدون قبل أيام قليلة فقط.
ضربة في قلب نفوذ إيران
سقوط نظام بشار الأسد في سوريا يمثل تحولاً جوهرياً في الديناميكيات الإقليمية، ويمكن أن يؤثر بشكل كبير على الجماعات المسلحة والنفوذ الإيراني في المنطقة، بما في ذلك الحوثيين في اليمن.
وعلى الرغم من تصورات القوة والوحدة ضد إسرائيل، فإن المحور كان قائماً دوماً على أسس هشة، ففي تدريب وتجهيز مجموعات المحور، عملت طهران على توسيع القوة المفترسة لجماعاتها على حساب المواطنين المحليين في الدول الضعيفة والمنقسمة، إن تصدير إيران لعدم الاستقرار عبر المنطقة كان بمثابة نقطة ضعف للمحور نفسه.
يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول، كانت المشاهد التي تأتي من دمشق، عبارة عن صور لإسقاط التماثيل، وصور سيلفي في قصر الديكتاتور، وانكشاف الدولة الأمنية التي كان يحكمها الأسد حليف إيران، وفقدان الجنود السوريين ثقتهم بالقيادة، وثقة المواطنين في أنفسهم أمام الجنود، لذلك كان تأثير انهيار الأسد على محور إيران كبيراً.
يمكن الشعور بالهزات التي يرسلها خروج سوريا من أيدي محور إيران، وظهور صورة نظام مُحتقر ودموي لأبعد الحدود ليبعث بتأثيرها إلى الشعب الإيراني[8]، الذي يقارن بين تصرفات النظام تجاه مواطنيه وحُكم الأسد في سوريا[9]. لكن مع ذلك نظام المرشد الأعلى ليس أجوفا ورقيا كما أصبحت ديكتاتورية الأسد، فلديه قاعدة انتخابية إيرانية محلية، فضلا عن قوى مستعدة وراغبة وقادرة على استخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين، وحالياً لا تواجه أي قوة متمردة مسلحة ومنظمة ومختبرة في المعارك ومدعومة من الخارج مثل هيئة تحرير الشام[10].
لقد دفع النقاش على مستوى النخب السياسية وصناع القرار في النظام الإيراني إلى مراجعة جدوى استراتيجية "الدفاع الأمامي" التي انفقت طهران عليها مليارات الدولارات من خلال حماية النظام السوري ثم هرب دون قِتال، بل مع اتهامات بالضلوع في جرائم اغتيال القادة الإيرانيين ابالتعاون مع إسرائيل.
واعترف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مقابلة مع التلفزيون الرسمي أن "جبهة المقاومة مرّت بعام صعب حقاً"[11]، لكنه نفى أن يكون نهاية المحور الذي بُني خلال 40 عاماً، وهو ما كرره المرشد الأعلى علي خامنئي بأن جبهة المقاومة ليست "جهازاً يمكن كسره أو تدميره"[12].
ورغم رفض المرشد الأعلى تحمل المسؤولية لفشل الاستراتيجية التي بناها وخسرت فيها إيران المليارات، فإن انهيار نظام الأسد يوجه ضربة قوية لطموحات إيران الإقليمية من خلال:
- تراجع النفوذ:
انهيار نظام الأسد يعتبر ضربة قاسية لمحور المقاومة الذي تقوده طهران، إذ كانت سوريا لفترة طويلة بمثابة حجر الزاوية لإستراتيجية إيران لتوسيع نفوذها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ستخسر طهران النظام العربي الوحيد الحليف، كما أن الخط البري الذي يربط الحرس الثوري بلبنان يمر من دمشق، -على الرغم من وجود خطوط تهريب أخرى للأسلحة إلى حزب الله، مستفيدة من وجودها في العراق، وعلاوة على ذلك، ستتكبد خسائر اقتصادية هائلة، حيث ستخسر استثمارات كبيرة في البنية التحتية السورية والقطاعات الاقتصادية المختلفة[13]، ومن شأن هذه الانتكاسات أن تؤدي إلى تأجيج السخط العام المتزايد.
دون سوريا تفقد إيران قاعدة أساسية للتوسع في المنطقة؛ وقاعدة دعم رئيسية لحلفاء إيران في محور المقاومة بما في ذلك الحوثيين وميليشيات الحشد العراقية، ويبدو أن سقوط الأسد يزيد من شكوك باقي أطراف المحور بالدعم الإيراني، وظهرت بغداد رد فعل صادم للإيرانيين برفضها ارسال ميلشيات الحشد الشيعي لدعم بشار الأسد[14].
• تغيير موازين القوى:
بعد سقوط الأسد، تجد إيران نفسها مضطرة إلى إعادة قراءة استراتيجية وجود المحور، كما أنه يغير موازين القوى في العراق ولبنان على وجه التحديد، إذ أن حزب الله، سوف يواجه تحديات كبيرة بخسارة شبكة دعم لوجستي وعسكري حيوية، مما يضعف قدرة الحركة اللبنانية العملياتية ويزيد الضغوط الداخلية التي تعاني منها بالفعل بعد وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
- الشك بالمحور:
يفرض المناخ الإقليمي وفشل استراتيجيتها الدفاعية على طهران إعادة التموضع والتقييم فقد صاحبتها استثمار ضخم للموارد البشرية والاقتصادية والسياسية لدعم حزب الله وبشار الأسد، وباقي الميليشيات في العراق واليمن.
يعيد القادة الإيرانيون تقييم عقيدتهم الدفاعية فمع عدم قدرة محور المقاومة بالكامل على تزويد طهران بالقدرة الرادعة، بدأ النقاش الداخلي حول تسليح برنامجها النووي.
وليس من المستغرب أن يثير هذا الفشل تساؤلات جدية بين أطراف المحور: إلى أي مدى يمكن أن يكون مصير الأسد وقوى المقاومة انعكاساً لمستقبلهم؟
لذلك في الوقت ذاته قد تضطر فصائل المحور المدعومة من إيران إلى إعادة تقييم استراتيجياتها وتكتيكاتها لمواجهة التغيرات في الوضع العسكري والسياسي.
- الهزات الارتدادية:
سقوط نظام بشار الأسد، سبقه حالة انهيار وتفكك لحزب الله[15]، بعد ضربات متتالية وجهتها له إسرائيل، كان من ضمن تأثيرات مقتل الأمين العام حسن نصر الله وكثير من قيادات الصف الأول، وكان لذلك تأثيراً كبيراً في سرعة انهيار نظام الأسد، ولذلك يتوقع المراقبون حصول هزات ارتدادية في بقية محور المقاومة بالذات في العراق واليمن، حيث هناك توقعات بحصول تحجيم ميلشيات الحشد الشيعي في العراق وربما تفككها، وهناك توقعات بسقوط سلطة الحوثي في اليمن.
مهددات تواجه الحوثيين في اليمن
كانت علاقة جماعة الحوثي مع نظام بشار الأسد في سوريا وثيقة وتقترن بالدعم المتبادل من قبل إيران، على الرغم من تعرضها لانتكاسه بعد إعادة إدماج نظام الأسد في الجامعة العربية (2023)، مع سحب السفارة من الحوثيين وإعادتها للحكومة المعترف بها دولياً.
خلال العقد الماضي كانت دمشق كجسر لتوجيه عناصرهم إلى إيران وحزب الله في لبنان، حيث كانت عناصرهم تترك جوازات السفر لدى أجهزة استخبارات النظام السوري في دمشق للتغطية على حركتهم، وساهم ذلك في تعزيز قدرة الجماعة العسكرية والدعم الذي يتلقونه من إيران.
وعلى الرغم من تراجع علاقتهم بنظام بشار الأسد؛ إلا أن الحوثيين دافعوا عن بقاء الأسد في السلطة فيما يقولون إنه لمواجهة إسرائيل، وأُثيرت مخاوف الجماعة[16]، من أن زلزال الثورة السورية سيمتد ليؤثر على الحوثيين وعلاقتهم بإيران سلباً وإيجاباً، ونشير هنا إلى عدة اعتبارات:
- الدعم الإيراني:
في قراءة للمشهد، فإن ضعف إيران سيؤدي إلى تراجع الدعم العسكري والمالي للحوثيين، مما يضعف الجماعة المسلحة في اليمن، لكن هذا يعتمد على توجه صانع القرار السياسي في طهران بالتوقف عن "جبهة العمق الاستراتيجي والمقاومة" أو الاستمرار في دعمها. ويبدو أن خطاب خامنئي وقادة الحرس الثوري توحي باستمرار دعم المحور[17].
ما يعني أن طهران ستستثمر تراجعها الإقليمي لإعادة التقييم والتموضع، والبحث عن فرص لإعادة البناء في لبنان وتطوير علاقات جديدة داخل المشهد السياسي السوري الجديد، كما ستعمل على تعزيز استثماراتها السياسية والاقتصادية في العراق واليمن[18].
إن سقوط الأسد يدفع إيران للتركيز على اليمن كنقطة استراتيجية جديدة، مما قد يعني زيادة في التمويل والأسلحة للحوثيين لتصحيح موازين القوى في المنطقة، وقد ألمح عراقجي إلى أن الجوار الجغرافي ليس شرطاً لاستمرار المحور مستشهداً بدعم الحوثيين في اليمن[19].
- الضعف التكتيكي:
كان سقوط الأسد نتيجة لضغوط داخلية وخارجية تبدو شبيه لحد ما إلى الوضع في مناطق سيطرة الحوثيين، يؤدي ذلك إلى تأثير نفسي على قادة الجماعة وأنصارها، مما قد يجعلهم يشعرون بالضعف والارتباك خشية استلهام خصومهم والسكان في مناطق سيطرتهم تلك التحركات لبدء هجوم ضد الجماعة مدفوع بدعم غربي وإقليمي غير محدود، خاصة أن سلطة الحوثيين فشلت في الإدارة والحكومة خلال السنوات الـ10 الماضية، ومن الصعب أن يجدوا دعماً حتى في حاضنتهم الشعبية.
- الانخراط في السلام:
أثبت الحوثيون خلال العام الماضي القدرة على التكيف والمرونة، واستخدموا الحرب الوحشية الإسرائيلية على غزة لشن هجمات في البحر الأحمر وتحسين صورتهم الإقليمية والمحلية واستعراض القوة، ومع المتغيّرات الجديدة أظهر الحوثيون تردداً وصدمة من سقوط الأسد، مع تلاشي الدعم الإيراني، قد يدفع ذلك الحوثيين لتغيير استراتيجيتهم وسياساتهم متأثرين بالتغيرات في توزيع القوى في الشرق الأوسط.
وقد يرى المجتمع الدولي ودول الإقليم الفرصة مواتيه لممارسة ضغوط قصوى على الحوثيين لوقف هجمات البحر الأحمر وفك الارتباط بإيران، مقابل مشاركة للحوثيين في حكم اليمن خلال المستقبل القريب.
- المخاوف السعودية:
تدرك السعودية أن الثورة السورية، ليست سوى انعكاس لجرائم الثورة الإسلامية الإيرانية، ولذلك فإن حساسيتها تجاه الثورة السورية، لن تكون كما كانت تجاه ثورات الربيع العربي، ولذلك لا يستبعد أن الرياض تستغل اللحظة لتعزيز دعمها للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً ضد الحوثيين، بدلاً من تقديم المزيد من التنازلات لجماعة الحوثي والضغط على حلفائها للموافقة على تلك الاشتراطات من الحركة المسلحة.
قد تلتقط السعودية ودول الخليج الأخرى تراجع إيران، والضغوط المتوقعة من إدارة ترامب على النظام في طهران، إما لدعم توجيه ضربة عسكرية ضد الحوثيين، أو لبناء فرصة للنوايا الحسنة والاستثمار في العلاقات الإقليمية، لوقف الحوثيين وإخراجهم من عباءة محور طهران، في حين تعمل الإدارة الأمريكية الجديدة على التوصل لتسوية بشأن العودة للاتفاق النووي (اتفاقية العمل المشتركة) والتي تمثل ذروة هدف الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان الذي تولى منصبه في منتصف 2023.
- فرصة نادرة لليمنيين
يشير انتصار الثورة السورية بعد 14 عاماً إلى تحول جذري في الديناميكيات الإقليمية، حيث يعكس سقوط نظام بشار الأسد انهيارًا لأسس محور المقاومة الذي قادته إيران لعقود. إن هذه التحولات ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي مؤشرات على إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية وتوازن القوى في الشرق الأوسط.
في ظل هذه الظروف، سيتعين على إيران تقييم استراتيجيتها الدفاعية والذي يتضمن علاقتها مع محور المقاومة.
إن التداعيات الناجمة عن هذا التغيير ستؤثر بشكل عميق على جماعة الحوثي في اليمن، التي قد تجد نفسها في موقف صعب يتطلب إعادة تقييم استراتيجياتها، خاصة مع معرفة الحركة أن بذور سقوط بشار الأسد وانعدام حاضنته الداعمة في سوريا، هي ذاتها الموجودة في مناطق سيطرة الجماعة -الجوع والفقر والانهيار الاقتصادي والقمع المتفشي ورفض اليد الممدودة للسلام خلال السنوات الماضية.
يمنح كل ذلك فرصة للحكومة المعترف بها دولياً لاستخدام الزخم والإلهام المجتمعي من سقوط الأسد لتحقيق مكاسب عسكرية إما لإسقاط حكم الحوثيين، أو للضغط لتغيير سلوكهم، للوصول إلى اتفاق يعطيها التفوق على قدراتهم العسكرية لتحقيق استقرار أكبر في اليمن.
الحوثيون من جهتهم، ومع تزايد الضغوط الإقليمية والدولية، سيقومون بإعادة التفكير في خياراتهم المستقبلية، بما في ذلك إمكانية البحث عن تسويات سياسية أو إعادة تشكيل تحالفاتهم.
كما أن اللحظة التاريخية توفر فرصة فريدة لإعادة النظر في الديناميكيات الإقليمية، مما قد يسهم في تحقيق استقرار أكبر في اليمن ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
سيناريوهات متعددة:
شكل مقتل قيادة حزب الله في لبنان، وانهيار نظام بشار الأسد في سوريا، ضربة موجعة لمحور المقاومة الذي بنته إيران ليكون لها نفوذاً استراتيجياً في الشرق الأوسط، فيما ينتظر المراقبون حدثاً مشابهاً لأدوات إيران في العراق واليمن، فما أهم السيناريوهات التي تنتظر جماعة الحوثي في اليمن؟
السيناريو الأول، عملية عسكرية:
بعد سلسلة استهدافات للسفن في ممرات الملاحة، قد يشجع هجوماً للقوات الدولية لإزاحة الحوثيين من الساحل، الحكومة اليمنية في القيام بتحرك عسكري ضد الحوثيين من كل المناطق العسكرية.
هذا السيناريو رغم أنه السيناريو المرجح، إلا أنه يحتاج لتحقيقه عدة أمور، مثل: تشكيل حكومة حرب مصغرة، وعمل غرفة عمليات موحدة، وتوفير سلاح نوعي، والحصول على تمويل كبير، وإيجاد غطاء إقليمي ودولي، إلى جانب ضرورة وجود قائد عسكري ميداني قوي، يحظى بإجماع الجيش اليمني بكل مناطقه العسكرية، والتشكيلات الأخرى التي نشأت لاحقا.[20]
وفي حال تحقق هذا السيناريو، قد نشهد عودة ميدانية لنائب الرئيس السابق علي محسن صالح الأحمر، الذي يمتلك خبرة واسعة في التعامل مع قيادات الجيش ومشائخ القبائل بالذات في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، ما يجعل احتمالات الانقلاب على الحوثيين من الداخل أثناء انطلاق المعركة أمرٌ متوقع.
السيناريو الثاني: اتفاق سياسي
كما رعت الصين تقاربا بين إيران والسعودية، قد تطلب طهران منها اتفاقا سياسيا في اليمن، لحماية حلفائها الحوثيين، بدعوى حماية اتفاق بكين، لكن ذلك يحتاج قبولا من جماعة الحوثي لتقديم تنازلات كبيرة، محفزة لعمل اتفاق سياسي، كما تحتاج لتوجه دولي لتشجيع الاتفاق السياسي.
هذا السيناريو هو الأقل ترجيحا، نظرا لأن المحفزات التي على الحوثيين القيام بها كبيرة، مثل: القبول بمشاركة في الحكم، مقابل حل الحركة المسلحة، والتحول إلى حزب سياسي، وتسليم العاصمة صنعاء للحكومة الشرعية المعترف بها دوليا.
وفي حال تحقق هذا السيناريو، قد يضغط الحوثيون لعودة نجل الرئيس السابق أحمد علي عبد الله صالح إلى السلطة، لضمان عدم حصول تصفيات مستقبلية، كون نجل الرئيس الذي اغتاله الحوثيون بعد تحالف فاشل معهم، انتُخب نائباً لرئيس حزب المؤتمر الشعبي العام في صنعاء، ولا تربطه عداوات مع الحوثيين، ولم يشارك في الحرب ضدهم، أو حتى يتهمهم بتصفية والده، كما أن الضباط الذين ثبتوا حكم الحوثيين، ينتمي غالبيتهم إلى قوات النخبة (الحرس الجمهوري) التي كان يقودها نجل صالح.
السيناريو الثالث: التلاعب بالوقت
رغم استبعاد هذا السيناريو، إلا أن الحوثيين يأملون في حصول أي متغيرات إقليمية ودولية، تخفف الضغط على محور المقاومة المتحالف مع إيران، والذي هم جزءًا منه، وحتى ذلك الوقت يعودون للحديث عن مفاوضات السلام مع السعودية لشراء الوقت، ويبدو أنهم على استعداد للتراجع عن كل اشتراطاتهم السابقة، التي تتضمن مطالب تعويضات بمليارات الدولارات، واشتراطات تمكنهم من حكم اليمن.
باتجاه الحكومة الشرعية يحاولون إظهار المرونة في حل الخلافات للتلاعب بالوقت، خاصة ما يتعلق بإطلاق سراح المعتقلين، والسماح بتصدير النفط، والقبول بتحويل الإيرادات إلى البنك لمركزي لتسليم الرواتب.
ومن أجل الاستفادة من الوقت يخطط الحوثيون لتخدير الشارع من خلال وعود بعودة كل الموظفين المبعدين، وتسليم الرواتب بانتظام، وإيقاف الإتاوات، ورفع نقاط الجباية، والعفو عن الكثير من السجناء.
مراجع:
[1] مقابلة أبو محمد الجولاني مع CNN،16/12/2024 على الرابط: https://youtu.be/iCdWF9hF0-4
[2] Israel Says Cease-Fire Takes Effect in Lebanon
[3] استراتيجية ترامب في اليمن مع تغيّر التوازنات في الشرق الأوسط
[4] Russia and Iran Pledge Support for Syria’s al-Assad Against Advancing Rebels/2/12/2024 https://www.nytimes.com/2024/12/02/world/middleeast/syria-aleppo-assad.html
[5] Iran Would Consider Any Call From Assad to Send Troops to Syria/4/12/2024 https://www.bloomberg.com/news/articles/2024-12-04/iran-would-consider-any-call-from-assad-to-send-troops-to-syria
[6] Iranian commander's killing, Aleppo advance shake up Syria conflict/29/11/2024
[7] Khamenei Loses Everything/10/12/2024
https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2024/12/khamenei-iran-syria/680920/
[8] تغريدة عبد الرضا دواري ، الذي كان مستشارا لمحمود أحمدي نجاد عندما شغل منصب الرئيس الإيراني ، على X. https://x.com/DavariAbdolreza/status/1864988811945443365
[9] 16 نکته درباره سقوط بشار اسد / دیکتاتور چرا سرنگون شد؟ https://www.asriran.com/fa/news/1019991
[10] AGSIW | The Domestic and Regional Impact of the Political Earthquake in Syria 9/12/2024
https://agsiw.org/the-domestic-and-regional-impact-of-the-political-earthquake-in-syria/
[11]روایت عراقچی از حوادث سوریه و سقوط اسد
https://aftabnews.ir/0040Rn
[12] «جبهه مقاومت» یک سختافزار نیست که بشکند یا از هم فرو بریزد یا نابود بشود.
[13] Remontada?! How Will Syrian Armed Factions Redefine the Regional Landscape/ 2/12/2024 https://www.habtoorresearch.com/programmes/will-syrian-armed-factions-redefine-the-landscape/
[14] The Washington Post )Fall of Assad in Syria deals serious blow to Iran’s ‘axis of resistance’ 8/12/2024
https://www.washingtonpost.com/world/2024/12/08/iran-assad-syria-axis-resistance/
[15] تداعيات اغتيال زعيم حزب الله على المشهد اليمني
https://abaadstudies.org/policy-analysis/topic/60133
[16] الحوثيون يتحفزون لمواجهة زلزال سقوط الأسد السوري بتقديم التنازلات للخارج، نشر في 12/12/2024 وشوهد في 12/12/20224 على الرابط: https://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/128509
[17] واکنش خامنهای به سقوط اسد؛ «مبارز بزرگی» که نامش را به زبان نیاورد/ https://www.radiofarda.com/a/assad-fall-reaction-ali-khamenei/33236174.html
سخنرانی خامنهای در مورد بحران سوریه و پیشنهاد برخی ایرانیان برای الگوگیری از تعامل با طالبان https://amwaj.media/fa/media-monitor/some-iranians-pitch-taliban-style-engagement-as-khamenei-addresses-syria-crisis
[18] The fall of Assad has exposed the extent of the damage to Iran’s axis of resistance/12/12/2024
https://www.chathamhouse.org/2024/12/fall-assad-has-exposed-extent-damage-irans-axis-resistance
[19] روایت عراقچی از حوادث سوریه و سقوط اسد
https://aftabnews.ir/0040Rn
[20] المناطق العسكرية هي: الأولى والثانية شرقا في حضرموت والمهرة الحدوديتان، والثالثة في الوسط شبوة ومأرب، والرابعة جنوبا في تعز وعدن، والخامسة غربا في ميدي بحجة الحدودية والساحل، والسادسة والسابعة في الجوف الحدودية وصنعاء شمالا.
التشكيلات العسكرية الأخرى: حراس الجمهورية في الساحل الغربي(المخا)، وقوات العمالقة في الجنوب(عدن) وقوات درع الوطن في الشمال والشرق(الحدود).