تمهيد
منذ عام 2021، تحاول المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية إنهاء القطيعة الدبلوماسية الذي بدأت عام 2016، بعد عقود من التوتر الدائم. وأثمرت الجهود أخيراً بإعلان اتفاق جرى في العاشر من مارس/آذار 2023 في بكين. حيث انتهزت الصين الفرصة للظهور كوسيط فاعل دبلوماسياً وقوي.
خلال العقود الأربعة الماضية، تأرجحت العلاقات بين السعودية وإيران بين المواجهة والمنافسة، وأحياناً التعاون. وعلى الرغم من اشتداد المنافسة والمواجهة إلا أن الدولتين سعتا في كثير من الأحيان إلى تجنب إزعاج علاقتهما بشكل لا يمكن إصلاحه لمجرد أنهما جيران يجب أن يعيشوا معًا؛ ومن ثم، لم يقطع التواصل بينهما حتى في أسوأ الأوقات، وحتى في أسوأ الخلافات حول القضايا السياسية، فإن تفضيلهما هو تجنب المواجهة المفتوحة. وبدلاً من ذلك، اعتمدت الرياض وطهران على عمليات غير مباشرة أو سرية أو بالوكالة، بغض النظر عن مدى الوصول إلى حلول سياسية من خلال هذه الوسائل، لتتوسع إلى العراق ولبنان وسوريا واليمن ودول أخرى. ووصلت إلى القاع خلال 2019 عندما اُستهدفت منشآت النفط السعودية واُتهمت إيران بشن الهجوم رغم تبنيه من قِبل الحوثيين من اليمن، أقرب المعارك إلى الأراضي السعودية وأكثرها تأثيراً على أمنها القومي، وتوسعت الهجمات البحرية الإيرانية لتصبح مهددة لاقتصاد المنطقة والعالم.
أخذ الوصول إلى اتفاق وقتاً طويلاً من الإعداد، وكانت اليمن محوراً رئيسياً للمشاورات التي استمرت عامين بين مسؤولي المخابرات السعوديين والإيرانيين، من بغداد إلى مسقط؛ خلال تلك المشاورات منح الوجود الإيراني في الحرب اليمنية، نفوذاً كبيراً لطهران في المفاوضات. أشارت تلك المناقشات الخلفية بين السعودية وإيران، على أن تقوم الرياض باستخدام أي نفوذ لديها لوقف تدفق الأموال أو الأسلحة إلى الجماعات في خوزستان بينما تشدد السعودية على أن تقوم إيران بالمثل بوقف تدفق الأموال والمواد إلى الحوثيين. واعتبر ذلك واحداً من الخيارات[1].
لذلك تتوجه الأنظار إلى اليمن لمعرفة مآلات هذا الاتفاق، الأكثر أهمية في المنطقة والعالم، منذ بداية القرن الحالي.
هذا التقرير يفترض أن هذا الاتفاق لا يعني نهاية الخلافات السعودية-الإيرانية، وبالاطلاع على التفكير الإيراني ينبغي تخفيف التوقعات بحدوث قفزة نوعية تغير ملامح المنطقة. كما لا يعني نهاية للحرب اليمنية متعددة الطبقات متغيّرة الديناميكيات وتعدد الفاعلين المحليين والدوليين.
طبيعة المفاوضات
كما أشرنا فإن صناع القرار في السعودية وإيران، سعوا خلال الأربعة العقود الماضية على تجنب الوصول إلى حرب، لكن مع زيادة الضغط الدولي على إيران، وشعور السعودية بالتهديد بسبب الحوثيين في اليمن، والهجمات المستمرة على منشآت النفط والاقتصاد السعودي، ومخاوف المنطقة من هجوم إسرائيلي أو أمريكي على إيران. استمرار احتقان المعضلة الأمنية بين الدولتين كان يدفعهما إلى شفى حرب دولية وهو وضع حرج لكلا الدولتين.
لذلك وصل صناع القرار في الرياض وطهران، إلى الوصول إلى خيار التفاوض. إذ أصبح التفاوض الدولي خلال العقود الأخيرة الوسيلة الرئيسية للتعامل مع النزاعات الدولية حول مجموعة واسعة من القضايا. ويرجع ذلك جزئيا إلى فهم أفضل لعمليات التفاوض القائمة على المصالح، وهي طريقة لهيكلة المفاوضات نحو حل "مربح للجانبين"[2]يتوصل فيه الطرفان إلى اتفاق مرضي بشأن القضايا الحاسمة لكل منهما. ومن وجهة نظر الدولتين فإن التفاوض أصبح مرغوباً فيه مع تلاشي الأمل في تحقق مكاسب من العداء والتوتر بينهما ومن الميليشيات التي تمولها.
عادة ما تسعى الدول التي تستخدم الحكومات والفاعلين من غير الدول في صراعهما خارج الحدود، إلى قياس المصالح والخسائر من الاتفاق، كما حدث في المشاورات بين القوتين بعد الحرب الباردة، ورغبتهما في إنهاء ما تسمى ب"الحروب بالوكالة" إلى متابعة الحلول التفاوضية حتى يتمكنوا من الخروج دون ضجيج من التزامهما في المنطقة. بالمثل حدث في حالة المفاوضات السعودية الإيرانية بناءً على المتغيّرات في الدولتين والعالم إذ أصبح تنافسهما في مأزق من حيث: عدم قدرتهما على حشد ونشر الجيوش لتغيير حقائق على الأرض والدخول في حرب؛ والرغبة في الخروج من حروب الوكالة فليس لها نتائج مضمونة، وأصبحت أيضا مكلفة للغاية. ولم تكن هذه الرغبة في "خروج" تفاوضي من حاجة اقتصاد البلدين للانتعاش وتغيّرات المجتمع في حالتي السعودية وإيران، وحاجة إيران لإنعاش الاقتصاد أكثر منه للسعودية.
ويرتبط هذا التقارب أيضاً تحقيق انجاز شخصي لقادة البلدين، حيث يسعى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتنفيذ رؤية المملكة 2030، ويسعى المرشد الأعلى في إيران وإبراهيم رئيسي لتحقيق انجاز يحقق له شعبية جديدة بعد حملة قمع للسكان العام الماضي، ومخاوف المحافظين من زيادة شعبية الإصلاحيين. ظهر أكثر وضوحاً يشبه الأمر ذاته الذي حدث 2015، بين الهند وبنجلادش حيث سعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى صرف الانتباه عن الانتكاسات المحلية باتفاقية تبادل الأراضي مع بنجلادش، فيما رأت رئيسة وزراء بنجلاديش الشيخة حسينة، التي تعرضت لانتقادات واسعة لإجازتها شن حملات عنيفة ضد المعارضة السياسية، كفرصة لإثبات شرعيتها من خلال مفاوضات دولية مع الهند[3].
وعادة ما تميل المحادثات بين متنافسين إلى نوعين من المفاوضات[4]: الأولى، المحادثات التحويلية، وهي المفاوضات التي تهدف إلى حل النزاعات الأساسية، إما من خلال التسوية أو القوة القاهرة. يعد التقارب الألماني مع فرنسا، الذي بلغ ذروته في معاهدة الإليزيه عام 1963 بين المستشار الألماني كونراد أديناور والرئيس الفرنسي شارل ديغول، أحد الأمثلة على ذلك. آخر هو المفاوضات الأمريكية مع اليابان في عام 1945 بعد أن أسقطت الولايات المتحدة قنابل ذرية على هيروشيما وناغازاكي، مما أدى إلى استسلام اليابان. الثانية، هي محادثات إدارة تفاصيل النزاع لاكتساب مزايا تكتيكية داخله، ومن الأمثلة على ذلك المفاوضات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بشأن الحد من التسلح خلال الحرب الباردة. لم يكن من المتوقع أبدًا أن تؤدي هذه المحادثات إلى حل للصراع الأيديولوجي الأساسي، ثم تم ربطه بقوة بالنظام العالمي، بل جعل هذا الصراع أكثر قابلية للتنبؤ به، وتقليل مخاطر انفجار حرب غير مرغوب بها وتجنب سوء الفهم الممكن حدوثه.
وتشير مراقبة طبيعة محادثات الإيرانيين والسعوديين خلال العامين، إلى النوع الثاني من المحادثات لإدارة الصراع في محاولة لحصول كل دولة على مكاسب: وقف دعم الحوثيين في اليمن مقابل وقف دعم تحركات للمعارضين الإيرانيين داخل أراضي الجمهورية. وينظر الواقعيون عادةً إلى عملية التفاوض من منظور تعظيم المنفعة حيث تمارس حسابات المنفعة المتوقعة للأطراف تأثيرًا حاسمًا على التفاوض. يشدد بعض علماء هذه المدرسة على جوانب "تقدير كلفة" التفاوض -من جميع النواحي-، حيث يجب مقارنة تكاليف التفاوض ونتائج المساومة بتكاليف الصراع نفسه، بما في ذلك تكاليف الغرق الحالية، والتكاليف المستقبلية المتوقعة[5]. يجادل باحثون آخرون[6] أن هذا النوع من حالات التنافس يشهد التفاوض مشكلات متعلقة بالفوائد والالتزام لأن الأطراف لا تثق في بعضها البعض وأنه من الصعب الحصول على الثقة ببساطة من خلال عملية الحوار والتواصل. لذلك يفرضون تصميم عمليات التفاوض والتفاعلات لإدارة المخاطر مع تعزيز التزام الأطراف بالتفاوض. يتضمن ذلك استخدام آليات التنفيذ والضمانات الأمنية التي يتم توفيرها عادةً من قبل طرف ثالث التي تخفض تكاليف التفاوض مع زيادة تكاليف عدم الامتثال للاتفاقات.
طبيعة الاتفاق
من خلال طبيعة المفاوضات التي مرّت عبر أكثر من بلد وصولاً إلى الصين، يمكن التوصل إلى شكل تقريبي للاتفاق الذي كان متوقعاً، والذي ظهر بشكل واضح في اتفاق العاشر من مارس/آذار (2023) في بكين برعاية وضمانة صينية!
وعادة ما يكون ملحقاً بمثل الاتفاقات، تفاهمات أو اتفاقات ضمنية تابعة للاتفاق وتبنى على أساسه. وسبق أن نشر مركز أبعاد للدراسات والبحوث دراسة حول العلاقات الإيرانية السعودية والمصالح المشتركة والأبعاد المختلفة لعلاقتهما يمكن الاطلاع عليها (مشاورات السعودية وإيران.. البحث عن نظام أمني إقليمي متوازن).
تبدو الاتفاقية في شكلها الرئيسي مع غياب التفاصيل الأخرى، أشبه باتفاقية عدم اعتداء أكثر من كونها قائمة مفصلة من الحلول للقضايا والخلافات التي تحتاج القوتان الإقليميتان إلى حلها من أجل تقليل التوترات بينهما حقًا. مع ذلك فإن وجود وثيقة مكتوبة موقعة بين إيران والسعودية يؤكد النية الجادة من جانب البلدين لبدء فصل جديد في علاقتهما، فصل يقوم على الاحترام المتبادل لسيادة الطرف الآخر وعدم التدخل في الشؤون الداخلية[7].
قدم الاتفاق عدة أبعاد رئيسية، على النحو الآتي:
أولاً، البعد الأمني للاتفاق:
يعتبر احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، هو البند الذي يشكل صلب نص الاتفاق. ويبدو واضحاً أن نص القانون يشير إلى "الدول" وليس "الدولتين" ما يؤكد الذهاب أن الأمر يتعلق ب"حرب الوكالة" أكثر من كونه شأناَ داخلياً للدول الموقعة على الاتفاق وفي مقدمتها اليمن.
يعود التوتر الأمني بينهما إلى عقود حيث دعمت السعودية، العراق ضمنياً خلال حربه ضد إيران في الثمانينات، قبل تخفيف التوترات بشكل نسبي؛ ثم أعيد التوتر نسبياً بعد دخول الولايات المتحدة العراق وتوغل إيران في صنع القرار السياسي في بغداد، ثم أعيد إشعال التوترات بعد الاحتجاجات المناهضة للحكومة في جميع أنحاء المنطقة فيما عرف بالربيع العربي. وفي مناسبتين على الأقل أدت الحوادث التي وقعت في موسم الحج السنوي أيضًا إلى توترات كبيرة بين المتنافسين الإقليميين. يمثل النص المتعلق بالسيادة وعدم التدخل في "الشؤون الداخلية للدول" جزءاً من محاولة تخفيف هذا الاحتقان المتعلق بالإقليم الذي تزايد بمرور السنوات.
يعود أصل النزاع بين الدولتين إلى أن إيران بعد الثورة الخمينية قدمت نفسها كقائدة للعالم الإسلامي، معتمدة على محاولة تصدير ثورتها لتأكيد نفوذها في المنطقة، ولأن الاتفاق لا يلزم بتغيّر نهج إيران في تصدير الثورة فإن هذا يعني أن الاتفاق يأتي على أساس "إدارة الصراع بينهما" وليس "حل الصراع".
ونص الاتفاق على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، في 17 ابريل/نيسان2001م، تشير هذه الاتفاقية إلى اتفاق جرى توقيعه في عهد محمد خاتمي الرئيس الإيراني الإصلاحي الذي شهدت فترته أهم تقارب بين السعودية وإيران، ويبدو الإشارة لهذا التقارب رسالة واضحة بالرغبة بعودة العلاقات إلى ذلك الوقت.
على الرغم من كون هذه الاتفاقية ناقشت علاقة الحدود البحرية بين البلدين، وتسليم المطلوبين، والتعاون الأمني والاستخباراتي بين الدولتين إلا أن مدلولاتها كانت أعمق من كل ذلك فقد مثلت نهاية قطيعة بين الدولتين. ولولا أن المرشد الأعلى علي خامنئي تجاوزها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق واعتبر سقوط نظام صدام حسين فرصة مناسبة للمضي بتصدير الثورة ونهجها والتأثير بذلك على السعودية لكانت العلاقات جيدة بين الدولتين.
يحتاج صانعوا القرار في الرياض وطهران، إلى إخضاع التهديدات الأمنية التي يشكلها الطرفين لبعضهما في أهمية أقل من السابق وتقديم المخاوف الدولية والطموحات الاقتصادية إلى أعلى القائمة؛ تخشى السعودية من تحول النظام الأمني الإقليمي إلى جزء من حرب باردة بين القوى الدولية، فيما تخشى طهران من هجوم دولي وشيك عليها من "إسرائيل" أو الولايات المتحدة، وترغب في تحييد المنطقة عن هذا الهجوم خاصة مع الوجود الإسرائيلي المتعاظم في شبه الجزيرة العربية بعد اتفاقها مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
يؤثر هذا الاتفاق بشكل مباشر على محاولات الولايات المتحدة بناء جسور عربية مع إسرائيل. لقد تبنت الدول العربية العلاقات مع إسرائيل جزئيًا من أجل تبادل المعلومات الاستخباراتية حول إيران، ولطالما كانت هناك آمال في واشنطن فيما يسمى بحلف "ناتو" عربي من شأنه مواجهة إيران.
ويبدو أن موافقة المملكة على إعادة العلاقات مع طهران تمثل معارضة سعودية لأي ضربة تشنها إسرائيل على منشآت إيران النووية – خاصة مع أن الإسرائيليين هددوا في 22 مارس/آذار2023 بشن هجوم إذا ارتفع تخصيب إيران لليورانيوم إلى 60%[8]-سبق أن خصبت إيران عند هذا المستوى[9]-. وهو ما سيثير تساؤلات حول كيفية تأثير مثل هذه الضربة على احتمال توقيع المملكة على اتفاقات جديدة مع إيران؛ كما يثير تساؤلات حول موقف طهران التي لطالما ألمحت إلى أنها ستستهدف دول الخليج إذا هاجمت إسرائيل أو الولايات المتحدة منشآتها النووية[10]، على الرغم أن هذه الاتفاقية ستحيد خطر الهجوم الإيراني.
ثانيا، البعد الدبلوماسي للاتفاق:
يشير الاتفاق إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين خلال شهرين. كانت السعودية قد بدأت بالفعل في تفحص أضرار مقرات سفارتها وقنصليتها في إيران خلال مفاوضات 2022. الإيرانيون، من جانبهم، اختبروا النوايا السعودية عندما سمحت المملكة للإيرانيين مرة أخرى بأداء فريضة الحج. "أولاً كان علينا أن نرى كيف سيعامل السعوديون حجاجنا". وحسب المعلومات فقد كان الاختلاف في تلك المفاوضات حول من يحل أولاً: عودة السفارات وفتحها أم وقف إيران دعمها للحوثيين في اليمن، ودفعهم إلى اتفاق سلام. وخلال هذه المدة من الواضح أن الإشارة لعدم "التدخل في الدول" ووقف دعم إيران للحوثيين سيكون تحت المجهر، تمهيداً لعودة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بين الرياض وطهران، وفتح الطريق أمام مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار في عموم المنطقة.
بالنسبة لطهران، فإن التقارب مع المملكة يكسر رسميًا تحالف الضغط الأقصى المناهض لإيران، مما يوفر لها عزلة أقل مع إمكانية المشاركة الاقتصادية، حيث يخفف الاتفاق العزلة الدبلوماسية الدولية التي واجهتها منذ الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الخريف الماضي، وبدد مخاوف انهيار المحادثات الهادفة إلى استعادة الاتفاق النووي الدولي لعام 2015 من أجل تخفيف العقوبات الاقتصادية. بالنسبة للرياض، فهي تمنح المملكة المزيد من النفوذ في الوقت الذي تسعى فيه للحصول على ضمانات أمنية أمريكية جديدة من إدارة بايدن.
ثالثاً، البعد الاقتصادي للاتفاق:
يشير إلى تفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، 27 مايو/آيار 1998م. وكانت هذه الاتفاقية هي التي أوصلت البلدين إلى الاتفاقية الأمنية (2001). وتوقفت مع توقف المرشد الأعلى علي خامنئي عن تفعيل الاتفاقية الأمنية دون حتى مشاورة حكومة خاتمي.
لقد حفزت أزمة وباء كورونا، ورؤى الدولتين الاقتصادية، والاحساس بالحاجة إلى التحرك نحو تنويع الاقتصاد بعيداً عن الكربون، ورؤى الدولتين الطموحة السعودية وإيران إلى دفع البعد الاقتصادي إلى أعلى الأولويات.
في أكتوبر/تشرين الأول 2018، أعلن الأمير محمد بن سلمان عن تطلعاته لمستقبل المملكة والشرق الأوسط الأوسع ليكون "أوروبا الجديدة" وهو مؤتمر مبادرة الاستثمار المستقبلي، وهو تجمع دولي تستضيفه الرياض سنويًا، لجذب الاستثمارات العالمية كجزء من خطة تنويع الاقتصاد السعودي لتنفيذ رؤية 2030. في العام التالي كانت منشآت النفط على حدود السعودية مع العراق تتعرض للهجوم. وتريد المملكة أن توقف حرب اليمن لأنها تكلف مالاً وسمعة: تشير التقديرات إلى أن المملكة أنفقت حوالي 200 مليون دولار في اليوم خلال حرب اليمن، بما لا يقل عن 5-6 مليار دولار شهريًا أي ما يقارب420 مليار دولار خلال السنوات السبع. وتفقد المملكة سمعتها في جذب الاستثمارات إلى المملكة ما يدفع برؤية 2030، إلى المعاناة، كما أن معظم المنشآت الصناعية والتجارية جنوبي المملكة متوقفة بسبب الحرب.
بالمثل تملك إيران رؤية 20 عاماً (2025) والتي لها أهدافا اقتصادية وسياسية[11]. وتؤثر العقوبات الدولية وحالة العزلة الإقليمية بشكل كبير على الاقتصاد الإيراني. تبنت طهران سياسة "المقاومة القصوى" لمعالجة أزمة العقوبات الدولية بالاعتماد على القدرات المحلية. لكن العقوبات في عهد دونالد ترامب ضد إيران تحت "الضغط الأقصى" كانت "أكثر العقوبات تدخلاً في التاريخ المعاصر، والتي كانت تسعى إلى تدمير اقتصادها ومجتمعها"[12]؛ وأثر فعلاً بشكل كبير في الاقتصاد الإيراني.
رابعاً، البعد الضامن للاتفاق:
تمثل الصين البعد الثالث الضامن للاتفاق السعودي-الإيراني وهو تحوّل مثيّر للاهتمام. كانت إيران قد طلبت في2021 من العراق التوسط لدى السعودية لإنهاء القطيعة، رفضت الرياض في ذلك الوقت بحجة أن الخلافات الأمنية عميقة؛ لكن لاحقاً اتفق الطرفان أن يتولى "مصطفى كاظمي"، التوسط. وعقدت خمس جولات من المشاورات بين فريقين من المخابرات والأمن والخارجية لكلا البلدين. لكنها أصبحت أقرب إلى الجمود في عهد رئيس الوزراء العراقي الجديد محمد السوداني، الذي لم يحظ بنفس مستوى الثقة السعودية مثل سلفه. بعد أن شعرت بالإحباط من التوقف، والتقارير الأمريكية عن خطط إيرانية لمهاجمة صناعة النفط في دول مجلس التعاون الخليجي[13]، طلبت السعودية من الصين أن تتولى دور الوسيط عندما زار الرئيس شي جين بينغ الرياض في ديسمبر/كانون الأول 2022. ونقل شي رسالة الرياض إلى طهران، التي قبلت العرض الصيني[14]. في فبراير/شباط 2023 زار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بكين؛ وبدأت على إثر هذه الزيارة المشاورات، التي أوصلت إلى اتفاق العاشر من مارس/آذار2023.
لقد فاجأ هذا التحول الكثيرين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فالمعروف أن السعودية وإيران عدوين لدودين في طرفي الصراع المتعارضين، حيث يلوم كل منهما الآخر على تأجيج الأوضاع في المنطقة والوقوف خلف عدم الاستقرار. يبدو أن المتغير في اللعبة كان دور الصين، أكبر مشتري للنفط الخام السعودي والإيراني وإحدى القوى الكبرى القليلة التي تتمتع بعلاقات صحية مع كلا البلدين. وأبرمت بكين وطهران صفقة اقتصادية ضخمة في يوليو /تموز 2021 بقيمة 400 مليار دولار. وفي العام التالي، وافقت طهران على الانضمام إلى "منظمة شنغهاي للتعاون"، وهي مجموعة تربط بين الصين والهند وروسيا والعديد من دول آسيا الوسطى وجنوب آسيا. وهو أمر لا يمكن توفره في حالة الولايات المتحدة، فحتى لو كانت العلاقات بين واشنطن والرياض في أفضل حالاتها، فمن الصعب أن نرى كيف كان بإمكان الولايات المتحدة التوسط في مثل هذه الصفقة، في وقت لا تقيم واشنطن علاقات دبلوماسية رسمية مع إيران منذ 1980، واتسمت علاقتها بالعداء العميق.
حتى الآن، ركزت الصين في المقام الأول على المصالح التجارية والاقتصادية في الشرق الأوسط. والآن هذه المصالح تجعلها تفكر على نطاق أوسع في الاستقرار الإقليمي. ويقال إنها تخطط لاستضافة قمة كبرى لإيران ودول مجلس التعاون الخليجي. كانت طهران قلقة بشكل متزايد من أن علاقات بكين المتنامية مع السعودية قد تجعلها أكثر عزلة. حيث أثارت زيارة "شي" للسعودية في ديسمبر/كانون الأول (2022) رد فعل عنيف في إيران بعد أن انضمت بكين إلى بيان عربي يدعو طهران إلى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن برنامجها النووي. يمنح الاتفاق الإيرانيين لتنفس الصعداء أن بكين يمكنها أن تساعد في تخفيف حدة مشكلاتها الإقليمية وتساعدها في تطبيع الأوضاع في المنطقة.
بالنسبة للرياض، فإنها تريد تحسين العلاقة بأي وسيلة ممكنة، ويرى صناع القرار السعوديون أن الصين فرصة جيدة لدعم اتفاق بطريقة تشعر إيران بأنها من قامت بفرض الاتفاق بسبب علاقتها مع بكين، التي تبدو أفضل طرف ثالث يمكن الحصول عليه ليكون ضامناً يزيد ثقة المملكة بتنفيذ إيراني للاتفاق. حيث يراه السعوديون اتفاق مع الصين، ومحاولة إيران التراجع سيدفعها لمواجهة بكين أولاً قبل السعوديين[15]. وترى الرياض أيضاً أن الصين اللاعب الوحيد الذي يتمتع بنفوذ حقيقي على إيران.
ودور الصين في تسهيل هذا الاتفاق سيؤثر في واشنطن. كانت هذه نتيجة مقصودة للقادة السعوديين[16]، الذين يأملون في أن يؤدي تهديد النفوذ الصيني المتزايد إلى زيادة الضمانات الأمنية الأمريكية.
ويتنبأ الاتفاق بزيادة حادة في نفوذ بكين في المنطقة التي لطالما كانت الولايات المتحدة هي الوسيط المهيمن فيها. وسارعت صحيفة جلوبال تايمز، وهي منفذ إخباري يديره الحزب الشيوعي الصيني، إلى إشارة دبلوماسي صيني كبير أن المحادثات كانت "تطبيقا ناجحا لمبادرة الأمن العالمي" وأن الصين "ستواصل كونها لاعبا بناء في تعزيز التعامل السليم مع القضايا العالمية الساخنة". وحذر التقرير من أن "بعض الدول الخارجية" - على الأرجح في إشارة إلى الولايات المتحدة - "قد لا ترغب في رؤية مثل هذه التحسينات الإيجابية في الشرق الأوسط" ودعا المنطقة إلى "مواصلة السعي إلى الحوار والمفاوضات".
ومع ذلك، لا يمكن فهم الصفقة الصينية الإيرانية السعودية خارج المنافسة الآخذة في الاتساع بين بين بكين وواشنطن. الصفقة جزء من حملة مكثفة من قبل بكين لتقويض القوة الأمريكية وإعادة تشكيل النظام العالمي. تصور تلك الحملة الولايات المتحدة كدولة مهووسة بالحرب ونظامها العالمي على أنه غير عادل وغير مستقر وغير قادر على حل مشاكل العالم الملحة. يصور تقرير صادر عن الحكومة الصينية في فبراير/شباط الولايات المتحدة على أنها داعية حرب مستبد ويسلط الضوء على "مخاطر ممارسات الولايات المتحدة على السلام والاستقرار العالميين ورفاهية جميع الشعوب". وعلى النقيض من ذلك، فإن الصين، وفقا لدعايتها الخاصة، هي أمة سلام لديها حلول أفضل لآثام العالم وتحدياته، تلك التي تضرب بجذورها في الحكمة الصينية وصاغها شي[17].
اليمن كاشف للاتفاق
كانت اليمن واحدة من الدول التي امتد فيها النفوذ الإيراني مسبباً كابوساً مقلقاً للأمن القومي السعودي. دعمت الدولتان فصائل معارضة في الحرب الأهلية اليمنية عام 2014، وفي عام 2015، تدخل تحالف تقوده السعودية لمحاربة الحوثيين المدعومين من إيران.
من المحتمل أن تكون حرب اليمن هي الأولوية على جدول أعمال كلا البلدين، خاصة مع احتمال عقد وزيري خارجية البلاد اجتماعاً خلال الشهرين الأولين من الاتفاق، ودعوة العاهل السعودي للرئيس الإيراني لزيارة المملكة ورحب الأخير بالزيارة. وشهدت اليمن هدوءا نسبيا في أعقاب هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة في أبريل/نيسان (2022)، وانتهت هذه الهدنة في أكتوبر/ تشرين الأول لكن يبدو أنها صامدة على أي حال وتشارك السعودية في محادثات مباشرة مع الحوثيين.
كانت السعودية قد طلبت من الإيرانيين وقف دعم الحوثيين كبادرة لحسن النوايا، لكن الإيرانيين اشترطوا أن تكون عودة السفارات والعلاقات الدبلوماسية قبل أن توقف طهران دعم الحوثيين أو الضغط عليهم لوقف الحرب والهجمات على المملكة ودول الخليج الأخرى. توقفت النقاشات عند هذه النقطة[18]. لذلك يستبعد أن توافق السعودية على اتفاق بعودة السفارات قبل أن تشاهد بشكل واضح إيقاف إيران لدعمها للحوثيين.
ولأن اليمن يحتل أهمية قصوى بالنسبة للسعودية، وتكاد تذكر بالنسبة للإيرانيين مقارنة بدول أخرى مثل سوريا والعراق ولبنان، فإن الملف اليمني يحقق تقارباً بين البلدين قد يصنع الثقة. سبق أن نشر مركز أبعاد للدراسات والبحوث دراسة عن الملف اليمني ودوره في المشاورات السعودية الإيرانية يمكن الاطلاع عليها لمعرفة التفاصيل: هل ستكون اليمن منطقة احتواء الصراع السعودي-الإيراني؟
تواترت التأكيدات الإيرانية المُطمئنة للسعوديين بدور في انهاء حرب اليمن، قالت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة إن المصالحة "ستسرع وقف إطلاق النار، وتساعد في بدء حوار وطني، وتشكيل حكومة وطنية شاملة في اليمن"[19]. وهو ما ردده مبعوث الأمم المتحدة الخاص لليمن هانز غروندبرغ بعد بضعة أيام أمام مجلس الأمن الدولي[20]. اكتفى السعوديون بالحديث عن الاستثمارات السعودية في إيران، وأنها ستكون في وقت سريع[21].
وهناك عديد من الأمور التي يمكن الإشارة إليها بخصوص الحالة اليمنية ضمن اتفاق العاشر من مارس/آذار2023:
توقعات من إيران:
على الرغم من أننا لم نعرف بعد التفاهمات التي تم التوصل إليها وراء الكواليس، إلا أنه من المحتمل جدا أن تلتزم طهران بالضغط على حلفائها في اليمن لتكون أكثر استعدادا لإنهاء الصراع في اليمن. تشير التسريبات من الدبلوماسيين الغربيين والسعوديين والإيرانيين، إلا أنه كجزء من الصفقة، تعهدت إيران بوقف تشجيع الحوثيين على الهجمات الصاروخية عبر الحدود على المملكة العربية السعودية ووقف تسليح الحوثيين، وإنهاء عمليات إرسال الأسلحة المتفوقة إلى الجماعة والتي تهدد دول الخليج العربي، والملاحة الدولية[22].
لكن ذلك لن يعني ذلك نهاية قدرة الحوثيين على القتال لأن الجماعة مسلحة بشكل جيد، ومع إذا أوقفت إيران الإمدادات حقًا، فمن المرجح أن يؤثر على مخزوناتهم من السلاح النوعي مثل الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. وهو ما يريده السعوديون الذين يريدون الخروج من الحرب طالما أن الحدود محمية.
وتبرز هناك معضلة أخرى متعلقة بالوعود السياسية الإيرانية، حيث حتى (21 مارس/آذار2023) لم يُعرف موقف الحرس الثوري من الصفقة مع السعوديين. فمثل اتفاق (2001) منح السياسيون الإيرانيون وعوداً كبيرة على هذا الاتفاق لكن الحرس الثوري اتبع مساره الخاص المستقل عن مواقف الحكومة.
مسار التهدئة:
يمكن للاتفاق أن يدفع بشكل إيجابي بشأن تهدئة طويلة الأمد في اليمن برعاية الأمم المتحدة. انتهت الهدنة بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول (2022) لكن وقف إطلاق النار استمر لاحقاً. كما توصلت الحكومة اليمنية والحوثيين إلى اتفاق بشأن تبادل الأسرى والمعتقلين في جنيف في مشاورات رعتها الأمم المتحدة، جرى الاتفاق على تبادل (887) شخصاً بينهم سعوديون وسودانيون. يعتبر ذلك واحد من أهم اختراقات المحادثات المباشرة وغير المباشرة التي ترعاها الأمم المتحدة.
مع ذلك لا يتوقع أن يسبب الاتفاق نهاية للحرب في اليمن، أو ينهي التعقيدات المحلية للحرب. لكنه قد يؤثر بشكل إيجابي بشأن طبقة الصراع الإقليمي المتعلق باليمن وهو ما سيقلل التوتر في الوضع اليمني.
تأثير على مفاوضات مسقط:
تراهن السعودية على عقد صفقتين الأولى مع إيران، والثانية مع الحوثيين في مسقط. لذلك قد تدفع طهران بالحوثيين إلى القبول بالصفقة التي تجري المحادثات حولها تحت رعاية عُمانية. لطالما كانت المحادثات تصل إلى انفراجه ثم تَتهم المخابرات السعودية الإيرانيين بالتدخل لوقف تقدم. يمكن الاطلاع على دراسة نشرها مركز أبعاد للدراسات والبحوث عن المحادثات بين السعوديين والحوثيين في سلطنة عُمان لفهم أوسع حول الموضوع: هل ستوقف محادثات مسقط بين السعودية والحوثيين الحرب في اليمن؟.
تهميش الأطراف المحليين:
يبدو أن معظم الأطراف المحليين يشعرون بالقلق من هذا الاتفاق، أبدت الحكومة اليمنية ترحيباً حذراً بالاتفاق. الحوثيون اعتبروه متعلق بأمن المنطقة ورحبوا به. المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات رحبوا بالاتفاق لكنهم كانوا متوجسين قلقين من المشاورات السعودية في مسقط.
كان هذا الأمر مثيراً لقلق الأمم المتحدة التي ترى أن أصحاب المصلحة المحليين يجب تمثيلهم وإشراكهم في أي مشاورات، لذلك في الأيام التالية للاتفاق كان المبعوث الأممي في طهران للقاء المسؤولين الإيرانيين، وانتقل لاحقاً إلى الرياض قبل أن يلقي احاطته في مجلس الأمن الدولي يوم 15 مارس/آذار2023.[23]
لذلك، سيكون من الضروري في نهاية المطاف أن يتم إشراك جميع الأطراف اليمنيين في مرحلة تالية من المفاوضات للتوصل إلى اتفاق. وسيكون صعباً تصور جلب الأطراف اليمنيين للموافقة على اتفاقية مرتبة مسبقًا، إذ أن أسس الصراع في أساسها محلية وليست متعلقة بصراع إقليمي.
تهميش الأطراف الأخرى في الإقليم:
يرى أن اتفاق السعودية وإيران همش أطراف إقليميين آخرين، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة التي تملك علاقة جيدة مع الاحتلال الإسرائيلي وتشير التقارير إلى نيتهما بناء قاعدة عسكرية في أرخبيل سقطرى.
على الرغم من ترحيب أبوظبي بالاتفاق إلا أن حدوث تفاهمات بشأن اليمن، تعتبره الإمارات استمرارا لتهميشها في صناعة مستقبل اليمن الذي حاولت بناء مصالح طويلة الأمد فيه. كشف تأسيس السعودية لقوات درع الوطن والتي بدأ فعلياً تأسيسها في منتصف العام الماضي (2022)، عدم قدرتها والحكومة المعترف بها دولياً على احتواء تحديات القوات التي تدين بالولاء لدولة الإمارات العربية المتحدة على الرغم من أن اتفاق الرياض (2019) واتفاق نقل السلطة (ابريل/نيسان 2022) يمنح المملكة بصفتها قائدة التحالف في محافظة عدن القدرة على توجيه هذه القوات شبه العسكرية التي تتبع المجلس الانتقالي الجنوبي، وهي قوة منقسمة داخلياً متعددة الولاءات ولا تحظى بقبول شعبي خاصة في محافظات الشرق، على الرغم من أن المجلس يندفع نحو مشروع الانفصال وبناء دولة مركزية في عدن! لذلك لجأت السعودية لدعم تشكيل قوة جديدة توازن هذا الاختلال، ورغم الاتهامات للسعودية بأنها شكلت هذه القوة بناء على أيدلوجية سلفية، إلا أن أغلب القوة هم من أبناء المجتمع والقبائل[24].
يبدو أن "الخاسر" الإقليمي الوحيد من الاتفاق هو إسرائيل، التي عملت بجد في السنوات الأخيرة - بمساعدة كبيرة من الولايات المتحدة - لبناء محور إقليمي مناهض لإيران يركز على العلاقات الأمنية بين إسرائيل ودول الخليج[25]. غذى العداء تجاه إيران الاتفاقات المبرمة بين الإمارات والبحرين لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في عام 2020. وبسبب دورها القيادي بين الدول الإسلامية وباعتبارها خادم الحرمين الشريفين وتاريخها وتقاليدها ومشاعرها الداخلية، امتنعت السعودية عن الانضمام إلى التطبيع مع الاحتلال[26]. وعلى الرغم من التقارير عن جهود أمريكية لتحقيق اتفاق بين الإسرائيليين والسعوديين إلا أن اتفاق جديد في ظل اتفاق مع إيران الذي يضمن تبادل المعلومات الأمنية والمخابراتية سيصبح أصعب من قبل. كما أن وجودها في سقطرى كان بمبرر مراقبة العمليات الإيرانية البحرية، وبوجود الاتفاق لن تقبل دول مجلس التعاون الخليجي -خاصة السعودية- وجود إسرائيلي في هذه المنطقة الاستراتيجية.
على الرغم من أن كثير من المحللين يرون أن الاتفاق مع إيران يعني بالضرورة اتفاقاً مع حزب الله اللبناني، لكن المخابرات السعودية ترى أن ذلك ليس كافياً. فما يزال حزب الله يرى ضرورة تضمين اعتباراته المحلية مقابل وقف دعم الحوثيين في اليمن[27]، وقال حسن نصر الله (الأمين العام للحزب) أنهم "طرف في حرب اليمن وليسوا وسطاء"[28]. وقد تذهب المخابرات السعودية إلى مفاوضات أخرى مع حزب الله اللبناني، لسحب خبراءه وتضييق العمل مع الحوثيين مقابل تنازلات سعودية للحزب في لبنان. ويندر الحديث عن النفوذ الكبير لحزب الله في صنعاء وداخل جماعة الحوثي، إذ أن حزب الله هو الأداة الإيرانية للتدخل في اليمن، وتشعر المخابرات في الرياض أن الحزب أكثر تغولاً وسيطرة داخل جماعة الحوثي ومن الصعب تجاهله.
دور صيني متوقع:
كان التوصل لاتفاق في الشرق الأوسط برعاية صينية، تأكيد على مرحلة جديدة من الدور الصيني في المنطقة، يضاهي الدور الأمريكي والأوروبي وربما يفوقه. يثير ذلك تساؤلا حول ما إذا كانت دبلوماسية الصين ستحقق نتائج دائمة في المنطقة وستستمر في قيادة هذه التوافقات؛ ويبدو أن الاختبار الرئيسي سيكون في اليمن، حيث توجد هدنة واتفاق إقليمي يمكن البناء عليه، وبصفتها طرفاً دولياً محايداً فقد تبذل جهداً للتوفيق بين الأطراف المحلية. يثير ذلك مخاوف الولايات المتحدة التي تملك مبعوثاً دولياً إلى اليمن منذ سنوات، وسارع "تمويثي ليندركينغ" لزيارة المنطقة والحديث عن رؤية حديثة لتحقيق توافق في اليمن. لكن القبول بدور دبلوماسي أمريكي في عهد إدارة بايدن كان محل شك بالنسبة للفاعلين المحليين والإقليميين، حيث يعتبر الحوثيون الولايات المتحدة خصماً داعماً للسعودية والتحالف، فيما تراه الحكومة اليمنية والرياض العكس بسبب مواقف إدارة بايدن تجاه المملكة والتراخي تجاه الحوثيين.
ووُصِف الاتفاق السعودي الإيراني بأنه "انتصار كبير" للصين، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه يأتي على حساب أي طرف آخر. إذ أن تخفيف الاحتقان في المنطقة في مصلحة الجميع الأوروبيين والأمريكيين ودول المنطقة. لذلك يجب رؤيته باعتباره نوع السلوك الدولي المسؤول الذي تقول واشنطن دائمًا إنها تريد رؤيته من الحكومة الصينية[29].
خلاصة
المحادثات بين السعوديين والإيرانيين اتخذت نوع محادثات "إدارة الصراع"، مع ارتفاع تكاليف الحرب بالوكالة بين الدولتين، ومخاطر استمرار التوتر عليهما مع المتغيّرات الإقليمية والدولية والاقتصادية. لا يعني ذلك نهاية للتوتر بل لإدارته فلم تتخلى إيران عن تصدير الثورة، ولم تتخلى المملكة عن حماية وجودها كقوة إقليمية كبيرة. وإن هدأت المعضلة الأمنية وقت من الزمن نتيجة اتفاقات فإنها ستعود من جديد.
التهدئة في المنطقة ونزع فتيل توتر يوصل إلى حرب هو اتفاق يرعى مصالح الجميع بمن فيهم الأمريكيين والأوروبيين؛ ولا يعني ذلك دوراً صينياً بديلاً للوجود الأمني الأمريكي/الأوروبي في المنطقة، لكن يمكن توقع المزيد من الدبلوماسية الصينية في المنطقة وزيادة علاقتها السياسية والاقتصادية لتنفيذ رؤيتها المتعلقة بالاقتصاد والسياسة. وهي حاجة فرضتها السياسة الأمريكية والأوروبية في المنطقة. ويمكن أن نشهد دوراً صينياً في اليمن في الوقت القريب للبناء على اتفاق العاشر من مارس/آذار؛ لكن فشل إيران في تنفيذ جانبها من الاتفاق سيدفع المنطقة إلى شفا حرب طويلة الأمد.
تراهن السعودية على أن صفقات مع إيران والحوثيين يسمح لها بإنهاء حرب اليمن، لكن هذه الحرب لن تنتهي إلا باتفاق اليمنيين. كما أن الحوثيين لا يبدون أي استعداد لوقف معاركهم ضد خصومهم اليمنيين، ويسعون لاتفاق يوقف دعم السعودية للحكومة المعترف بها دولياً مقابل وقف الهجمات عبر الحدود؛ وحتى لو وقع الحوثيون على اتفاق يوقف هجماتهم داخل البلاد فإن أي ضمانات لن تكون ذات قيمة بالنسبة للحوثيين إذا لم تنفذ أيدلوجية الجماعة. وهو خطير بالنسبة للسعودية التي ستجد نفسها مجدداً في الحرب.
على الرغم من أن الاتفاق السعودي-الإيراني يمهد الطريق بشأن تمديد وقف إطلاق النار في اليمن، إلا أن حدوث ذلك قد يتعثر مع تصعيد الحوثيين في 21 مارس/آذار (2023) باتجاه مدينة مأرب من جهة الجنوب والغرب حيث دارت أعنف المعارك منذ أكثر من عام. فما الذي ستفعله المملكة في حال انسحبت وفقاً لاتفاق مع الحوثيين وانجرفوا بعدها بسرعة للسيطرة على محافظات مأرب وشبوة ووادي حضرموت كما كانت عليه الخطط عام 2021م.
كما أنه وحتى لو وعد السياسيون في إيران بوقف تسليح الحوثيين ووقف تدخلهم في اليمن، أو حتى إنهاء وجودهم هناك، فإن الأمر لا يتعلق بالحكومة الإيرانية بقدر ما يتعلق بالحرس الثوري ومساره في البلاد. وعادة ما تصطدم التوافقات بأمر واحد وهو النظام القائم في إيران، الذي يقوم على "تصدير الثورة"، ويريد من الخليج، أن يكون جزءاً من تغييره الثوري، وجزء من مواجهته مع الغرب؛ فهل ستتخلى إيران عن نهجها الثوري؟ واعتبر قاسم سليماني اليمن ذات أهمية استراتيجية، لأسباب ليس أقلها دعم آية الله خامنئي لخطة 20 عاما للبحرية[30]. التي تهدف إلى إعاقة الجهود الأمريكية لتسيير دوريات في البحار، والسعودية جزء كبير من تلك الرؤية.
[1] Roberts, David, Saudi Arabia and Iran: Exploring Theoretical Pathways Towards Desecuritisation, book: STEPPING AWAY FROM THE ABYSS: A Gradual Approach Towards a New Security System in the Persian Gulf(2021) p95-106
[2] Weiss, Thomas G. ed. The United Nations and Civil Wars . Boulder: CO: Lynne Rienner, 1995
[3] KATIE, SHONK: Dispute Resolution for India and Bangladesh,23/1/2023
[4] James Jeffrey, Bilal Saab How to Overcome the Pitfalls of the Saudi-Iran Dialogue,25/9/2022
https://www.lawfareblog.com/how-overcome-pitfalls-saudi-iran-dialogue
[5]Fen Osler Hampson , Chester A. Crocker , Pamela R. Aall, Negotiation and international conflict/8/2/2007https://www.routledgehandbooks.com/pdf/doi/10.4324/9780203089163.ch3
[6]علماء نظرية "اللعبة" يجادلون بضرورة وجود طرف ثالث يضمن الاتفاقات بسبب فقدان الثقة، المصدر السابق (Fen Osler Hampson/2007)
[7] Yemen and the Saudi-Iran Rapprochement/Nabeel A. Khoury/22/3/2023
https://arabcenterdc.org/resource/yemen-and-the-saudi-iran-rapprochement/
[8] Iran enriching uranium above 60% could trigger strike, Israeli official says/22/3/2023
https://www.axios.com/2023/03/22/israel-iran-enriching-uranium-above-60-israeli-strike
[9] UN report: Uranium particles enriched to 83.7% found in Iran/01/3/2023
[10] Iran threatens to strike UAE in case of US attack: MEE/2/12/2020
https://www.aa.com.tr/en/middle-east/iran-threatens-to-strike-uae-in-case-of-us-attack-mee/2063005
[11] چشم انداز جمهوري اسلامي ايران در افق 1404 هجري شمسي
[12] Nuruzzaman, Mohammed. (2020). President Trump’s ‘Maximum Pressure’ Campaign and Iran’s Endgame. Strategic Analysis (6): 570–82.
[13] US and Saudi Arabia concerned that Iran may be planning attack on energy infrastructure in Middle East/1/11/2022
[14] Saeed Azimi, The Story Behind China’s Role in the Iran-Saudi Deal, 13/3/2023
https://www.stimson.org/2023/the-story-behind-chinas-role-in-the-iran-saudi-deal/
[15] Saudi Arabia-Iran detente: old foes stay cautious after decades of mistrust
https://www.ft.com/content/47e26a9f-0943-4e65-b8a0-604da6289153
[16]FAISAL J. ABBAS, How optimistic should we be about the Saudi-Iranian rapprochement?/ 13/3/2023
[17] Michael Schuman, China Plays Peacemaker
https://www.theatlantic.com/international/archive/2023/03/china-iran-saudi-arabia-diplomacy-soft-power/673384/
[18] هل ستوقف محادثات مسقط بين السعودية والحوثيين الحرب في اليمن؟ مركز أبعاد للدراسات والبحوث (فبراير/ِشباط2023)
[19] Iran says deal with Saudi Arabia will help end Yemen’s war/12/3/2023
[20] UN says intense diplomacy under way to end 8-year Yemen war/16/3/2023
https://apnews.com/article/yemen-diplomacy-war-un-grundberg-00e15c483c4c2ec54b968e49eef09403
[21] وزير المالية السعودي: هناك فرص كثيرة للاستثمار في إيران/ 15/3/2023
[22] Iran Agrees to Stop Arming Houthis in Yemen as Part of Pact With Saudi Arabia/ 16/3/2023
https://www.wsj.com/articles/iran-agrees-to-stop-arming-houthis-in-yemen-as-part-of-pact-with-saudi-arabia-6413dbc1
[23] إحاطة المبعوث الخاص هانس غروندبرغ إلى مجلس الأمن/15/3/2023
[24] هل ستوقف محادثات مسقط بين السعودية والحوثيين الحرب في اليمن؟ (مركز أبعاد للدراسات والبحوث) فبراير/شباط 2023
[25] Saudi deal with Iran worries Israel, shakes up Middle East/11/3/2023
[26] IntelBrief: China Brokers Iran-Saudi Rapprochement/14/3/2023
[27] هل ستكون اليمن منطقة احتواء الصراع السعودي-الإيراني؟ (مركز أبعاد للدراسات والبحوث) نوفمبر/تشرين الثاني2022
[28] خاص الميادين | حوار الأربعين | 2022-07-25 وشوهد في 28/7/2022م https://youtu.be/SnjUV6I-GIc أو https://tinyurl.com/2yrax94b
[29] Daniel Larison, Why the Iran-Saudi agreement to restore ties is so big/10/3/2023
https://responsiblestatecraft.org/2023/03/10/how-the-us-can-build-on-more-normal-iran-saudi-ties/
[30] F. Rezaei, Iran’s Foreign Policy After the Nuclear Agreement, (Middle East Today, 2019),pp21-32