التداعيات الجيوسياسية للهجوم الإسرائيلي على الحديدة تتجاوز الحوثيين
مقدمة:
في 19 يوليو/تموز تمكنت جماعة الحوثي المسلحة من شن هجوم ناجح على "تل أبيب" بطائرة مسيّرة أدت إلى مقتل "إسرائيلي" وإصابة آخرين على بعد 100 متر من السفارة الأمريكية. في اليوم التالي وردًا على ذلك، شنت إسرائيل ضربات انتقامية على ميناء ومرافق تخزين النفط في مدينة الحديدة (غربي اليمن) التي يسيطر عليها الحوثيون. وأعلن قادة الاحتلال الإسرائيلي أن عملية "الذراع الممدودة"[1](Outstretched Arm)، محاولة لردع خصوم إسرائيل في المنطقة.
وعقب الهجوم الإسرائيلي على الحديدة بدأ الحوثيون جلب الفرص السياسية على الرغم من الخسائر الاقتصادية التي مُنيت بها الجماعة المسلحة التي تعتمد على عائدات الجمارك لإبقاء آلة الحرب خاصتها في حالة دوران مستمر. وزاد الحوثيون من خطابهم القومي ضد ما يسمونه "الإمبريالية الغربية المدعومة من الخليج " مستغلين الحرب الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة والتي أدت إلى استشهاد أكثر من 39000 فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، وإصابة وفقدان أكثر من 100.000 شخص.
أعلن الحوثيون أنهم سيردون على الهجوم الإسرائيلي، ورد القادة الإسرائيليون أن أي رد من الحوثيين سيبادله رد أوسع من "تل أبيب" على الأراضي اليمنية. ونددت الحكومة المعترف بها دولياً بالهجمات الإسرائيلية على ميناء الحديدة، وحذرت من فوضى إسرائيلية وإيرانية لجر المنطقة إلى الحرب.
واستمر اشتعال منشآت خزانات النفط في ميناء الحديدة أكثر من سبعة أيام، وتجاوزت الخسائر في الميناء اليمني أكثر من 300 مليون دولار[2]، بينها أكثر من 150 ألف طن من المشتقات النفطية كانت مخزنة في المنشآت الـ38 المستهدفة من قِبل الطيران الإسرائيلي.
مخاوف دولية من توسع الحرب:
يعتمد الحوثيون على الأسلحة الإيرانية لاستمرار هجماتهم في البحر الأحمر، أو تلك التي يتبنون بها استهداف المناطق المحتلة في إسرائيل، ويزداد الوضع تعقيداً مع خشية المخابرات الأمريكية من نيّة روسيا تزويد الجماعة المسلحة اليمنية بتكنلوجيا متطورة. من شأن مثل هذه الخطوة أن تؤدي ليس فقط إلى تكثيف الصراع بالوكالة بين القوى الكبرى، وهو أمر لا تريده الحكومة اليمنية ودول مجلس التعاون الخليجي حلفاء الولايات المتحدة.
يزيد الهجوم الإسرائيلي على بعد 2000كم من توسيع رقعة الحرب خارج قطاع غزة ما يجعل دول المنطقة أقرب نحو حرب إقليمية؛ وقد لا يكون حدثاً يوازي اغتيال قادة حزب الله في بيروت وطهران، إلا أنه يضع اليمن والأمن القومي لشبه الجزيرة العربية في بؤرة الحرب الأوسع رغم استمرار دول الخليج في سياسة الحياد تجاه الأحداث. بالمقابل لا تحقق "عملية الذراع الممدودة" أي مكاسب استراتيجية للاحتلال الإسرائيلي، فإبمكانها تسجيل نقاط لصالح نتنياهو مع الدوائر الانتخابية المحلية في إسرائيل. لكنها تمنح الحوثيين دعماً واسعاً داخل اليمن وفي بقية العالم العربي.
استهداف أصول الحوثيون
منذ نوفمبر/تشرين الثاني يشن الحوثيون هجمات على الملاحة الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن والبحار القريبة من اليمن، لاحقاً أعلنت الحركة عن توسيع الهجمات لتشمل المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. كان هجوم "تل أبيب" أول تأكيد على قدرة الحوثيين على شن هجمات في البحر الأبيض المتوسط، وعلى تطويرهم قدرات عسكرية، بدعم إيراني، في ظل الحملة الأمريكية/البريطانية والغربية ضد الجماعة المسلحة والمستمرة منذ نهاية العام الماضي. ومع تداول الأنباء عن إمكانية الدعم الروسي للحوثيين –وربما الصين- فإن مخاوف جديدة على مستقبل الأمن القومي للمنطقة مع تعاظم قدرات الحوثيين؛ خاصة مع فشل غربي في التعامل مع الجماعة المسلحة ليس فقط منذ مطلع العام الحالي، بل وحتى في دعم حلفائهم الخليجيين خلال العقد الماضي، حيث ضغطت واشنطن والعواصم الغربية لتوقيع اتفاق استوكهولم 2018 لمنع سيطرة القوات الحكومية على ميناء الحديدة الاستراتيجي.
يستورد اليمن 85% من احتياجاته الغذائية، كما يعتمد 75% من السكان على المساعدات الإنسانية، معظم هذه السفن تمر بشكل رئيسي عبر ميناء الحديدة. ولذلك تجنبت الولايات المتحدة والحكومة اليمنية استهدافه، رغم الاتهامات السابقة باستخدام الميناء لاستقبال الأسلحة الإيرانية، وشن هجمات على السفن التجارية. وفي الحقيقة لا يوجد دلائل على استقبال الحوثيين للأسلحة عبر ميناء الحديدة أو استخدامه لشن هجمات بحرية، لكن الحركة تستخدم مناطق في محافظة الحديدة وفي جزرها الاستراتيجية لتهريب الأسلحة وشن الهجمات عبر البحر. لذلك فإن الهجمات الإسرائيلية ليست مرتبطة بالأسلحة الإيرانية كما أراد القادة الإسرائيليون تبريرها بل باستهداف الأصول الاستراتيجية لجماعة الحوثي المسلحة.
تمثل عائدات ميناء الحديدة أكثر من 40٪ من دخل الموانئ اليمنية[3]، معظمها من عائدات المشتقات النفطية. وتفرض جماعة الحوثي حوالي122 دولاراً رسوماً ضريبية وجمركية على الطن للوقود المستورد عبر الميناء[4]. لذلك يحصل الحوثيون من عائدات الوقود ما يقرب من 84 مليون دولار شهرياً، مليار دولار سنوياً. ونتيجة الهجمات لن يتمكن الحوثيون من استيراد المشتقات النفطية في مناطق سيطرتهم بنفس الكفاءة قبل الهجمات حيث تشير التقارير أن الاحتلال الإسرائيلي دمرَّ خمس رافعات، ومحطة كهرباء و37 من منشآت تخزين المشتقات النفطية، بحيث قلص سعة تخزين الوقود في الميناء من 150 ألف طن إلى 50 ألف طن.
هدفت الضربات الجوية الإسرائيلية على ميناء الحديدة إلى إضعاف قدرات الحوثيين من خلال استهداف شريان الجماعة المالي؛ وهو أحد أهداف الولايات المتحدة للتضييق على الحركة وتجفيف إيراداتها المالية لإجبارها على وقف هجمات البحر الأحمر. لكن على الرغم من الخسائر الاقتصادية الكبيرة فإن الميناء يعمل بشكل جيد بعد أيام من الهجمات، كما أن بإمكان الجماعة استخدام ميناء رأس عيسى لاستيراد المشتقات النفطية. وقد يكون اختيار القادة الإسرائيليين ضرب هدف مدني ورفيع المستوى لتحقيق تأثير سياسي من خلال الضغط الداخلي على الحوثيين ورفع مستوى غضب المجتمع من هجماتهم، لكن ذلك جاء بنتائج عكسية حيث زاد من دعم دعاية الحوثيين بأنهم يحاربوا أمريكا وإسرائيل؛ وهي الأخطاء ذاتها التي وقعت فيها الغارات الأمريكية/البريطانية منذ مطلع العام باستهداف البر اليمني.
مكاسب الحوثيين
تبدو الخسائر الاقتصادية في إطار قدرة الحوثيين على احتمالها، مقابل المكاسب السياسية للجماعة المسلحة. وقال زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي في خطاب متلفز[5] اليوم التالي للهجمات: نحن سعداء جداً بالمعركة المباشرة بيننا وبين العدو الإسرائيلي. لذلك فإن الهجمات غير المسبوقة على ميناء الحديدة هي بالضبط ما كان يريده الحوثيون لاثبات مصداقة الشعار الذي تقوله "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل". وتحقيق حلم الحوثيين منذ تأسيس الجماعة مطلع القرن الحالي.
ويمكن الإشارة إلى بعض مكاسب الحوثيين من هذه الهجمات:
- التحشيد والدعم:
كما تفعل الغارات الأمريكية-البريطانية في يناير/كانون الثاني الماضي فإن الهجمات الإسرائيلية تقاطع أهداف الحوثيين مع القضية الفلسطينية التي تحظى بمناصرة كبيرة في اليمن. تستخدمها الحركة المسلحة للحصول على التأييد الداخلي وتأكيد سرديتها بأنها تواجه الاحتلال الإسرائيلي ما يزيد من قدرة الجماعة على الحشد والتجنيد. تشير التقارير إلى أن الحوثيين جندوا عشرات الآلاف من الشبان المتحمسين للقتال ضد الاحتلال منذ بدء هجمات البحر الأحمر، بعد أن كانت قدرة الجماعة على التحشيد تراجعت بشكل كبير الأعوام الثلاثة الماضية.
والتجنيد داخل اليمن يأتي لتهديد خصومهم المحليين، واحتمالية تصعيد المعارك التي يتوقون لها باتجاه مناطق النفط الغاز شرق وجنوب البلاد. وشهدت الأشهر الأخيرة تحشيد للمقاتلين إلى خطوط التماس الأولى لجبهات القتال.
- رافعة سياسية ضد الخارج:
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، استخدم الحوثيون هجمات البحر الأحمر كأداة دعاية لإدانة الموقف العربي خاصة الخليجي من الحرب. ويتهم الحوثيون دول مجلس التعاون الخليجي بالذات السعودية والإمارات بدعم الهجمات الأمريكية/الإسرائيلية ضد الأراضي اليمنية، وهددوا بعودة استهداف منشئات خليجية من أجل الحصول على تنازلات سياسية. وبالفعل حصل الحوثيون على اتفاق "خفض التصعيد" بين الأطراف اليمنية المتنافسة الذي يمنح الحركة تنفيذ بعض طلباتها مثل إلغاء إجراءات البنك المركزي اليمني لترسيخ المركز المالي والقانوني للحكومة، وعودة رحلات الطيران دون مراقبة مسبقة.
- قمع مناطق سيطرتهم والتهرب من حقوق الناس:
تمنح الغارات الإسرائيلية أداة للحوثيين لإسكات الانتقادات الموجهة للجماعة في مناطق سيطرتها، باستخدام تهمة العمل مع "المخابرات الإسرائيلية" وموالاة الصهيونية كأداة لسجن المنتقدين. وعقب الغارات الأمريكية/البريطانية اُعتقل عشرات العاملين في وكالات الأمم المتحدة والموظفين السابقين في السفارات الغربية بالعمل لصالح أجهزة مخابرات الولايات المتحدة وإسرائيل. وقال زعيم الحوثيين في خطابه عقب الهجمات الإسرائيلية: "من أهم فوائد الأحداث، ونتائجها، هي، التجليات التي تفرز وتكشف الناس على حقيقتهم، اليوم مع دخول العدو الإسرائيلي في العدوان المباشر على بلدنا، هي فرصة من أكبر الفرص لمعرفة الآخرين على حقيقتهم، من هو المنافق بكل ما تعنيه الكلمة".
مثل كل الجماعات المسلحة التي تدير سلطة أمر واقع فإن حركة الحوثيين تفضل البقاء في حرب مفتوحة لتجنب واجبات الحوكمة من دفع رواتب الموظفين وتقديم الخدمات والسماح بالحقوق والحريات، وتبرير فشلها في إدارة المناطق تحت سيطرتها بحالة الحرب. لذلك خلال الفترة القادمة سيفرز الحوثيون الناس في مناطق سيطرتهم إما "معنا، أو ضدنا"، وأي انتقاد مهما كان بسيطاً فإن الجماعة ستعتبره عملاً عدائيا لصالح الإسرائيليين والأمريكيين.
- تعزيز الحضور في محور إيران:
على عكس الادعاءات الإسرائيلية، لن تضعف الضربات على نحو كبير سلاسل إمداد الحوثيين من الأسلحة الإيرانية، فمكونات الصواريخ والطائرات والقوارب المسيّرة عن بعد لا تحتاج إلى مرافئ كبرى لوصولها إلى اليمن. الهجوم الإسرائيلي يزيد من واردات الحوثيين من الأسلحة، واعتبرت الجماعة اليمنية ثالث أكبر مستورد للأسلحة من إيران العام الماضي[6].
كما أن الهجوم الإسرائيلي يثبت نجاح الحوثيين في تعزيز موقفهم داخل المحور الإقليمي الذي تقوده، وأن دعم طهران جعل الهجمات على إسرائيل واستهداف التجارة في البحر الأحمر ممكنة، حيث أصبح الحوثيون رأس حربة رئيسية في الحرب الإيرانية الأخيرة.
ومنحت هجمات البحر الأحمر حركة الحوثيين مقعداً رئيسياً في طاولة محور المقاومة التابع لإيران[7]، بعد أن اعتقدت الجماعة أنها تُدفع بعيداً منذ اتفاق العاشر من مارس/آذار 2023 بين السعودية وإيران برعاية صينية. قدم الحوثيون نفسهم كفاعل رئيسي يمكن في حال حصولهم على القدرات والتكنولوجيا العسكرية من النظام الإيراني أن يكونوا أفضل من حزب الله في لبنان الذي بنته إيران من الصفر، واعتمدت عليه كمركز إقليمي للنفوذ الإيراني وتأثيره في السياسات الإقليمية. وهو ما يشدد الحوثيون عليه منذ بدء هجماتهم في البحر الأحمر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
- حلم الوصول لقوة إقليمية:
يعول الحوثيون على أن الهجوم الإسرائيلي وقبله الأمريكي والبريطاني فرصة لتتحول الجماعة إلى قوة إقليمية.
يحاول الحوثيون غسل سمعتهم التي تعززت على مدى سنوات الحرب أنهم "ميليشيا متمردة تقاتل ضد حكومة شرعية". ليستبدلوها بسمعة أنهم قوة إقليمية مؤثرة في سياسات الدول الأكبر في المنطقة مثل السعودية ومصر.
ولذلك كان ملاحظاً سعي الحوثيين لبناء وجود طويل الأمد في العراق، وشن عمليات مشتركة مع الميليشيات الإيرانية في العراق لتأكيد حضورهم مستخدمين محور المقاومة كقاعدة للوصول إلى أهدافهم. ويرون أن مقارنتهم بحزب الله غير صحيحة. حيث قال عبدالملك العجري القيادي في الجماعة إنه جماعته ستكون “أقوى وأكبر” من نظيرتها اللبنانية (التابعة لإيران)[8].
التداعيات الجيو-سياسية الإقليمية
تُعد مكاسب ومناورات الحوثيين تطورات غير مرغوب فيها في سلسلة الأزمات والمعضلات في منطقة الشرق الأوسط والأمن القومي لدول مجلس التعاون الخليجي منذ سنوات، لكنها بعد الهجمات الإسرائيلية الأولى على الإطلاق في شبه الجزيرة العربية أصبحت أكثر تعقيداً ومحفوفاً بالتحديات، خاصة مع غياب وجود عمل استراتيجي سريع لحل هذه الأزمات بكفاءة.
- اليمن منطقة تبادل الرسائل:
يؤكد الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة يبعد 1600 ميل، على مدى تفاقم الشعور بانعدام الأمن بين المستوطنين، وفشل العمليات العسكرية في قطاع غزة في تحقيق أهدافها، إذ أن اللجوء إلى مهاجمة ميناء الحديدة في مسعى لإرساء الردع باستعراض للقوة بـ20 مقاتلة معظمها من طراز F-35.
كان القادة الإسرائيليون واضحون من الهدف الرئيس، وقالوا إن الحرائق في الحديدة تشاهد من دول الشرق الأوسط وهي رسالة للجميع. وأوضح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن هذا الإجراء كان بمثابة رسالة إلى المنطقة[9]: "هاجمنا الحوثيون أكثر من 200 مرة. وفي المرة الأولى التي ألحقوا فيها الأذى بمواطن إسرائيلي، ضربناهم. وسنفعل ذلك في أي مكان قد يكون ذلك ضروريًا". كما أنها –بشكل خاص- رسالة واضحة لإيران التي تبعد (620 ميلاً) بأن مدى وصولها لا يزال طويلاً ودقيقًا، وأن شهيتها أو قدرتها لم تتضاءل.
بالمقابل كان هجوم الحوثيين على تل أبيب رسالة واضحة بقدراتهم التي جرى التشكيك فيها بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، ورسالة لإسرائيل إذا ما قررت فتح حرب مع حزب الله اللبناني بأن الجماعة المسلحة في اليمن يمكنها ترجيح كفة "محور المقاومة".
يمكن في حال استمرت الحرب في قطاع غزة، وحتى في المدى المنظور عقب احتمال وصول إدارة جمهورية إلى البيت الأبيض، أن نشهد تبادلاً للرسائل بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وإيران ووكلائها من جهة أخرى في الأراضي اليمنية.
- صراع روسي-أمريكي:
مع توعد الرئيس الروسي بدعم حركات مسلحة ضد الأمريكيين إذا ما زاد الدعم المقدم لأوكرانيا. فإن تقارير الاستخبارات الأميركية[10] تشير إلى احتمال قيام روسيا بتزويد الحوثيين بصواريخ متطورة مضادة للسفن وهو ما يزيد الأمور تعقيداً. كما يوجد مستشارين عسكريين روس في اليمن لتقديم المشورة للحوثيين في عمليات البحر الأحمر[11]. فمن شأن خطوة كهذه أن تنقل الأراضي اليمنية من صراع بالوكالة إقليميا بين دول الخليج وإيران، إلى صراع بالوكالة بين القوى الكبرى. ما يخاطر أن تصبح اليمن ساحة معركة لصراعات جيوسياسية أوسع نطاقا، مع عواقب وخيمة على سكانها المدنيين[12].
سبق أن أعلن الحوثيون بالفعل عن تطوير في قدراتهم البحرية منذ نوفمبر/تشرين الثاني، بما في ذلك دخول سلاح "الغواصات المسيّرة" المحملة بالمتفجرات، وهو تحول استراتيجي يهدف إلى تعزيز قدرة الحوثيين على تعطيل الطرق البحرية الحيوية في البحر الأحمر وما بعده. وإذا ما دفعت موسكو بدعم الجماعة اليمنية بأسلحة بحرية متطورة فإنه يزيد من التهديد الإقليمي الذي يشكله الحوثيون لأمن المنطقة.
- دول الخليج تحت الضغط:
لم تكن الطائرة المسيرة التي سافرت من اليمن إلى إسرائيل متطورة بشكل خاص إذ يبدو أنها نسخة معدلة من طائرة صماد 3 ، التي تم تقديمها في عام 2019 واستُخدمت ضد السعودية والإمارات. وزعم الحوثيون أن الطائرة المسيرة المستخدمة في ضربة تل أبيب كانت طرازًا جديدًا أطلقوا عليها اسم "يافا" وتتمتع بقدرات التخفي، لكن الخبراء قالوا إن التغييرات الصغيرة زادت فقط من مدى الطائرة المسيّرة 300 ميل عن صماد3. وهي رسالة للرياض وأبوظبي وحلفائهما اليمنيين بأن الهجمات إذا ما عادت الحرب ستكون أكثر دقة.
قبل الهجمات الإسرائيلية على ميناء الحديدة، كان الحوثيون يقومون بحملة تهديد للسعودية، ونشر صور لمطاراتها وموانئها، واتهامها بالعمل لصالح الاحتلال بفرض حصار اقتصادي عبر إجراءات البنك المركزي اليمني، وهدد زعيم الجماعة باستهداف مشاريع الرياض 2030. لكن عقب ضربة الحديدة قالت السعودية إنها " لن تسمح باستغلال مجالها الجوي من قبل أي من الأطراف، وهو موقف اتخذته منذ بدء النزاع، وهو أيضاً موقف معظم دول مجلس التعاون الخليجي". لكن إذا ما تصاعد النزاع بين إسرائيل ووكلائها في المنطقة بعد الهجمات الإسرائيلية في الحديدة وبيروت وطهران فإن البقاء على الحياد بقدر ما يمنح دول الخليج فرصة فإنه لن يكون كذلك من ناحية اليمن.
أرسل الحوثيون بهجماتهم البحرية أنهم يعملون بحرية وعدوانية خارج الحدود في وقت لا يشعرون فيه بالعواقب وهو ما يجعل من التهديدات باستهداف الأراضي اليمنية دون فائدة تذكر. وقال زعيم الحوثيين في خطابه عقب الضربة الإسرائيلية إنه "لا يوجد لدى اليمن ما يخسره أكثر مما حدث خلال سنوات الحرب الماضية". يوضح ذلك التحديات في التعامل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تعمل بعقلية محصلتها صفر، فالجماعة المسلحة تهدف إلى السيطرة الكاملة على اليمن والبقاء كقوة إقليمية توازي السعودية، أو تحقيق دمار كامل للبلاد.
لذلك سيستمر الحوثيون في هجمات البحر الأحمر وتوسيعها حتى إلى دول الجوار، والمصالح الدولية خارج البحار القريبة من اليمن كرافعة سياسية للوصول إلى هدفهم. وهو ما يجعل مشاريع التنمية الطموحة في المنطقة تحت التهديد الأمني. ولا يعني ذلك أن استجابة الرياض وأبوظبي-التي تملكان مشاريع طموحة في المنطقة- وتنفيذ ما تطلبه الحركة اليمنية سيبقي مشاريعها في أمان بل ستبقى نفسها تحت رحمة غضب الحوثيين.
- ركائز السياسة الأمريكية:
منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي تقول إدارة بايدن إن استراتيجيتها في المنطقة تسعى لتحقيق التوازن بين المصالح المتنافسة والتي تقوم على أساس ثلاث ركائز: حماية الممر البحري، ومنع توسع الحرب من قطاع غزة، والحفاظ على الخيارات الدبلوماسية لإنهاء حرب اليمن. وأعلنت عن عملية "حارس الإزدهار" لحماية السفن في البحر الأحمر، ثم "بوسيدون آرتشر" لشن ضربات في البر اليمني تستهدف مواقع ومخازن الحوثيين[13]. وفي نفس الوقت منحت تل أبيب شيك على بياض من الدعم العسكري والسياسي رغم جرائم الحرب التي ترتكبها في قطاع غزة، ما جعل سياستها بشأن عدم توسع الصراع دعماً لإسرائيل وليس حماية للمنطقة. وتجنبت وضع استراتيجية سياسية ترافق استراتيجيتها العسكرية تجاه الحوثيين في اليمن لذلك فشلت عمليتها في وضع حد لهجمات الحوثيين.
هددت الضربات الإسرائيلية في الحديدة قلب الاستراتيجية الأمريكية؛ حيث ترسل العمليات الإسرائيلية لواشنطن رسالة " عملياتكم في اليمن ليست كافية."
ودعا قائد القيادة المركزية الأمريكية في رسالة سرية إلى نهج أوسع نطاقاً ضد الحوثيين بما في ذلك التدابير الاقتصادية والدبلوماسية إلى جانب الإجراءات العسكرية. ودعا خبراء أمريكيون إلى استهداف قادة الحوثيين. وهو ما سيصعد من الحرب الداخلية في اليمن ويزيد من حملة الحوثيين الانتقامية في البحر الأحمر[14]. ويبدو أن التطوير الأمريكي لاستراتيجية مواجهة الحوثيين سيكون سمة المرحلة القادمة ليس فقط باستهداف قادة الحوثيين، ولكن بتصنيف رسمي جديد أكثر صرامة يضع جماعة الحوثيين في نفس المرتبة مع تنظيم القاعدة.[15]
- رصيد الحوثيين في طهران:
ترفع الهجمات الإسرائيلية رصيد الحوثيين داخل محور المقاومة، ولدى النظام الإيراني، باعتباره رأس حربه في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة في المنطقة. فعلى مدى تاريخها الممتد لثلاثين عامًا، كانت حركة الحوثيين في الغالب جماعة مسلحة محلية، وكانت كذلك باعتبارها محدودة الموارد فلم ينظروا لأنفسهم كجهة رئيسية في استراتيجية إيران لمواجهة التهديدات البعيدة عن حدودها أو ما يعرف بعقيدة "الدفاع الأمامي"[16] ولذلك كانوا أكثر قلقاً بعد اتفاق الرياض وطهران برعاية بكين عام 2023 من التخلي عنهم. منحتهم الهجمات في البحر الأحمر رصيداً إضافياً للبقاء، ومنحتهم الهجمات الإسرائيلية اعترافاً بأنهم قادرون على إحداث فوضى في تدفقات التجارة، وتشتيت انتباه منافسي إيران الإقليميين والدوليين، لذلك ارتفعت مكانتهم لتحقيق استراتيجية إيران[17]. يشير ذلك إلى أن محاولات استمالة الحوثيين وابعادهم عن إيران بالأموال والمزايا السياسية والاقتصادية، وإبعاد طهران عن اليمن بمشاريع اقتصادية لن يؤدي إلى إبعاد الحوثيين عن "محور المقاومة".
- تحالف جديد لمواجهة إيران ووكلائها:
عقب الضربة على ميناء الحديدة، قال الجيش الإسرائيلي"إننا نخوض حربا متعددة الجبهات. حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والميليشيات في العراق وسوريا، وكذلك الحوثيين في اليمن، وكل وكلاء إيران، وإيران نفسها[18]". كما طالب وزير الخارجية الإسرائيلية الولايات المتحدة بقيادة تحالف لمواجهة الحوثيين وإيران[19]. يزيد التوتر الناجم عن العمليات الإسرائيلية في طهران وبيروت من وجود التحالف الجديد خاصة إذا تبادلت إيران ووكلائها وإسرائيل الهجمات.
إن نشوء تحالف لمواجهة إيران ووكلائها[20] وكيف يمكن أن ينشأ وما حدوده وما إذا كانت دول الخليج ستشارك فيه، سيبقى سؤال محوري في الأشهر المقبلة سواء في ظل الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة أو في المرحلة التي تعقب ذلك. ووجود تحالف من هذا النوع سيعيد تشكيل المنطقة.
خاتمة
لقد ثبت باستمرار أن التدخل في شؤون الحوثيين، حتى عندما يكون مبررًا، معقد ومحفوف بالتحديات. وتزيد الهجمات الإسرائيلية القائمة على ردة فعل غير منضبطة من التوتر والاقتراب من حرب إقليمية واسعة. وإن الحلول التي تفرض من خارج المنطقة لا تعزز أمنها بل تفتح شهية دخول المزيد من الأطراف الدولية. لذلك ولتجنب التداعيات فإن منطقة البحر الأحمر والخليج العربي بحاجة إلى توافقات إقليمية بالذات فيما يتعلق باستعادة التوازن في المنطقة من خلال إعادة نفوذ الدول المطلة التي تعاني من الصراع مثل اليمن والسودان والصومال. وعمل استراتيجية سياسية تتمتع بالسرعة والكفاءة للحد من نفوذ وكلاء إيران العسكري والسياسي، وفي نفس الوقت إبعاد الإسرائيليين عن تقرير مصير المنطقة. حيث أضحت الهجمات الإسرائيلية والأميركية تلعب دورا في تعزيز شعبية الميلشيات الموالية لإيران في المنطقة.
مراجع:
[1] "WATCH: Operation 'Outstretched Arm' - IDF footage from airstrike on Houthi port in Yemen" Published on 22/7/2024 See 26/7/2024
[2] Israel Shamay/Makor Rishon" Israel's Yemen strike caused millions in damage to Houthis" Published on 26/7/2024 See 26/7/2024
[3] Asharq Al Awsat, "Yemeni Ports Revenues at $52 Million in 3 Months" Published on 16/11/2019 See 27/7/2024 https://english.aawsat.com/home/article/1994131/yemeni-ports-revenues-52-million-3-months
[4] مسؤول يعمل في ميناء الحديدة ورجل أعمال يستورد عبره تحدثا لأبعاد في 16/02/2022 في لقاء بصنعاء،
[5] موقع الحوثيين الرسمي، "السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي: نحن سعداء جدا بالمعركة المباشرة بيننا وبين العدو الإسرائيلي وكذلك الأمريكي"نشر في 21/7/2024 وشوهد في 28/7/2024 على الرابط: https://www.ansarollah.com.ye/archives/694893
[6]SIPRI, " Trends in International Arms Transfers, 2023" Published March 2024 See 04/04/2024
https://www.sipri.org/sites/default/files/2024-03/fs_2403_at_2023.pdf
[7] هاشم، عدنان، "فلسطين والبحر الأحمر في الاستراتيجية الإيرانية" نشر في 15/5/2024 وشوهد في 30/7/2024 على الرابط: https://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/112702
[8] Robert F. Worth "The Houthis Are Very, Very Pleased" Published 09/03/ 2024 See 04/04/2024 https://www.theatlantic.com/international/archive/2024/03/houthis-yemen-war-palestine/677637/
[9] Tom Spender and Paul Adams "Israel strikes Houthis in Yemen after drone hits Tel Aviv" Published 20/07/ 2024 See 30/07/2024
[10] Michael R. Gordon and Lara Seligman " U.S. Launches Effort to Stop Russia From Arming Houthis With Antiship Missiles" Published 19/07/ 2024 See 20 /07/2024 https://www.wsj.com/world/middle-east/u-s-launches-effort-to-stop-russia-from-arming-houthis-with-antiship-missiles-98131a8a
[11] Natasha Bertrand and Katie Bo Lillis, CNN " Russia pulled back weapons shipment to Houthis amid US and Saudi pressure" Published 02/08/ 2024 See 02 /08/2024
https://edition.cnn.com/2024/08/02/politics/russia-weapons-houthis-saudi-arabia/index.html
[12] Gerald M. Feierstein, Fatima Abo Alasrar " The geopolitical implications of Houthi attacks and Israeli retaliation" Published 23/07/ 2024 See 24 /07/2024 https://mei.edu/publications/geopolitical-implications-houthi-attacks-and-israeli-retaliation
[13] الاستراتيجية الغربية في البحر الأحمر وخيارات الردع، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، نشرت في 19/7/2024 وشوهد في 19/7/2024 على الرابط: https://abaadstudies.org/strategies/topic/60120
[14] Michael R. Gordon and Lara Seligman " U.S. Launches Effort to Stop Russia From Arming Houthis With Antiship Missiles" Published 19/07/ 2024 See 20 /07/2024 https://www.wsj.com/world/middle-east/u-s-launches-effort-to-stop-russia-from-arming-houthis-with-antiship-missiles-98131a8a
[15] Chris Boccia, " Red Sea tensions reach new high as US weighs terrorist designation for Houthis" Published 24/07/ 2024 See 03 /08/2024
https://abcnews.go.com/International/red-sea-tensions-reach-new-high-us-considers/story?id=112113059
[16] Alex Vatanka, "Whither the IRGC of the 2020s? Is Iran's Proxy Warfare Strategy of Forward Defense. Sustainable?" New America2021,p20 https://tinyurl.com/22k8uhh6
[17] هاشم، عدنان، "الاستراتيجية الإيرانية في البحر الأحمر.. الأهداف والتكتيكات" (مركز أبعاد للدراسات والبحوث)، نشرت في 4/5/2024 وشوهدت في 31/7/2024 على الرابط https://abaadstudies.org/strategies/topic/60109
[18] Amos Harel "Israel’s Next War" Published 23/07/ 2024 See 03 /08/2024 https://www.foreignaffairs.com/israel/israels-next-war-hezbollah-lebanon
[19] Dan Williams, " Israel Ready to Hit Houthis Again While Urging US to Take Lead" Published 25/07/ 2024 See 03 /08/2024
[20] Garrett Nada; Lucy Kurtzer-Ellenbogen; Robert Barron " What the Houthi-Israel Exchange Might Mean for Escalation in the Middle East" Published 24/07/ 2024 See 03 /08/2024 https://www.usip.org/publications/2024/07/what-houthi-israel-exchange-might-mean-escalation-middle-east