تكتيكات البقاء.. خطط الحوثيين لإرساء قواعد دولتهم الجديدة

تقييم حالة | 21 سبتمبر 2024 20:32
تكتيكات البقاء.. خطط الحوثيين لإرساء قواعد دولتهم الجديدة

 

 

تمهيد

أعلنت جماعة الحوثي المسلحة عن حكومة جديدة (غير معترف بها دولياً) في صنعاء، في ترجمة لما أعلنه زعيم الجماعة في سبتمبر/أيلول العام الماضي عن "تغييرات جذرية"؛ وسط أزمة البحر الأحمر حيث تشن الحركة اليمنية المدعومة من إيران هجمات على السفن التجارية في ممرات الملاحة الدولية منذ نوفمبر/تشرين الثاني، بالمقابل أحيانا تشن الولايات المتحدة (بمشاركة نادرة من المملكة المتحدة) ضربات جوية رداً على ذلك منذ يناير/كانون الثاني الماضي، الأمر الذي جعل الحوثيين يستخدمون هذه الضربات كرافعة سياسية لزيادة القمع في المناطق التي يسيطرون عليها، والاستعداد لحرب جديدة للحصول على الموارد، إذ تراجعت المفاوضات لإنهاء الحرب المتوقفة من خلال هدنة منذ ابريل/نيسان 2022م، التي تبعها تفاهمات بين الحوثيين والسعودية وبين السعودية وإيران.

تأتي حكومة الحوثيين الجديدة في وقت تعاني الجماعة بشدة في تحالفاتها الداخلية مع حزب المؤتمر الشعبي العام (جناح صنعاء)[1]، والقبائل، وموظفي الدولة، ورجال الأعمال، وسخط شعبي متزايد في مناطق سيطرتهم، بسبب الفساد وفشل الحوكمة وتفشي المحسوبية وصناعة مراكز مالية جديدة من قادة الحوثيين. كما تأتي في ظل أوضاع إقليمية متوترة للغاية تجعل المنطقة أقرب خطوة نحو حرب عابرة للحدود حيث تمثل الحركة اليمنية رأس حربة في تبادل الضربات بين إيران والاحتلال الإسرائيلي والغرب، وهو ما يجعل اليمن مؤثراً رئيسياً في الاستقرار.

سيركز هذا التحليل على تقييم دلالات هذا الإعلان على مختلف المستويات، بما في ذلك علاقاته بأزمة البحر الأحمر، وإيران، والحكومة المعترف بها دولياً، وتأثيره على جهود السلام، وتداعياته على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

 

التحديات المؤسسية التي تواجه الحوثيين 

خلال العقد الماضي أوجد الحوثيون تيارين داخل مؤسسات الدولة المسيطر عليها، التيار الأول هي الحكومة المعلنة من قبلهم، والثانية حكومة خفية موازية، وكليهما ترتبطان بزعيم الجماعة. كان قبل ذلك أنشأت الجماعة "نظام المشرفين"، حيث زرعت الجماعة ممثل لها في كل مؤسسة بالدولة بغض النظر عن مهامها وحجمها.

وبينما يتنافس التياران على السلطة والثروة، يمسك "عبدالملك الحوثي" بكل الخيوط باعتباره المرجع الرئيس للخلافات، وقد أدى النظام المتشعب إلى تأثير سلبي على عمل المؤسسات لتبدو وكأنها تدار من "قوى خفية"؛ جاءت الحكومة الجديدة التي يرأسها " أحمد غالب ناصر الرهوي" بدلا عن "الدكتور عبد العزيز صالح بن حبتور"، في ظل هذا الوضع الذي لا يبدو أنه سيتغير. 

 

خارج مؤسسات الدولة يبدو الوضع الإداري والسياسي والاقتصادي والإجتماعي بيئة أكثر سوءاً بين ذلك: 

  • سخط شعبي: تسبب فشل الحوثيين في إدارة مؤسسات الدولة وتقديم الخدمات في سخط متزايد لليمنيين، ما يضاعف غضبهم هو الجبايات المستمرة، وسوء استغلال السلطة حيث يجعل من المواطنين طبقة أدنى من الحوثيين، ويرفض الحوثيون دفع رواتب الموظفين الحكوميين منذ سنوات، وفي 2023 و2024 خرجت تظاهرات نادرة بمناطق سيطرتهم تندد بحكم الجماعة وتحذر من عودة نظام الإمامة -الذي سقط في 1962- من جديد.

وتزامن تشكيل الحكومة مع حملة قمع غير مسبوقة تستهدف المسؤولين الحكوميين والموظفين اليمنيين السابقين في السفارات الغربية، وموظفي المنظمات الدولية والمحلية بما في ذلك موظفي وكالات الأمم المتحدة، ونشر اعترافات لعدد منهم بتهم "التجسس" لصالح المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والغربية، ما أدى إلى تراجع كبير في عمل وكالات الإغاثة في مناطق الجماعة حيث يحتاج قرابة 80% من السكان لمساعدات إنسانية عاجلة.

تحاول حركة الحوثيين امتصاص الغضب المتزايد داخل الجماعة وخارجها من فساد وفشل، بإلقاء اللوم على شكل النُظم والقوانين في مؤسسات الدولة؛ وعلى سلطة الأمر الواقع التي تتقاسمها مع حزب المؤتمر، وعلى "وكالات المخابرات الأمريكية" التي تدعي أنها أفشلت الحكومات.

 تشكيل حكومة جديدة قد يهدئ غضب أنصار الجماعة والسكان في مناطق سيطرتها، لكن السبب وراء ذلك، هي المؤسسات الموازية التي خلقها الحوثيون وتستحوذ على إيرادات الدولة لصالح جهود الحرب. 

 

  • العلاقة مع "مؤتمر صنعاء": يأتي تشكيل الحكومة في وقت تصاعدت الخلافات بين الحوثيين وحليفهم السياسي "مؤتمر صنعاء". رفض الحوثيون مراراً مطالبات "مؤتمر صنعاء" بتداول رئاسة المجلس السياسي الأعلى والتي ظلت في جماعة الحوثي منذ 2016، بدلاً من تداولها كل ستة أشهر، كما يرفض الحوثيون لقاء قادة الحزب بوفود الوساطة التي تزور صنعاء من "الممثلين العُمانيين" إلى "السعوديين" وحتى الأوروبيين والأمم المتحدة[2]

تجاهل تشكيل حكومة الحوثيين الجديدة أي مشاورات مع "مؤتمر صنعاء" ورئيسه صادق أمين أبو راس، وهو ما يعني تخلي الحوثيين عن الغطاء السياسي الذي منحه الحزب للحركة السياسية للسيطرة على مؤسسات الدولة، وحسب قيادي في الحوثيين فإن مكتب عبدالملك الحوثي هو من اختار أسماء الحكومة الجديدة، ويوجد أعضاء من "مؤتمر صنعاء" ضمن الحكومة لكن مسؤولين في المؤتمر يقولون إن من شارك في هذه الحكومة شاركوا بصفتهم الشخصية وليس كممثلين للحزب[3]، مع ذلك أعلن "مؤتمر صنعاء" ترحيبه بالحكومة الجديدة التي يقودها أحد قادة الحزب. 

 

  • الهجمات البحرية: منذ بدء هجمات البحر الأحمر في نوفمبر/تشرين الثاني2023 يشعر الحوثيون بالمزيد من الثقة أن فرض شرعية حكمهم في المناطق الخاضعة لسيطرتهم أصبح أمراً واقعاً.

وانخفضت حركة الملاحة البحرية عبر البحر الأحمر بنحو 90% منذ بدء الهجمات[4]، وفشلت الاستراتيجيات الأمريكية والأوروبية في وقفها[5]، لقد تمكن الحوثيون من تحويل الأمن البحري إلى ورقة مساومة، ورمز للرافعة السياسية الجديدة لتحقيق طموحاتهم. يأتي إعلان الحكومة مع التخلي عن غطائهم السياسي "مؤتمر صنعاء" جزء من فرض معادلة جديدة في داخل اليمن.  

 

  • تآكل الجماعة: منحت سنوات الحرب الحوثيين فرصة لخلق تيارين عريضين على الأقل، الأول يقوده "أحمد حامد" مدير مكتب الرئاسة، والثاني محمد علي الحوثي عضو مجلس القيادة الرئاسي. يشكو الأخير من إقصاء المقربين والأتباع القريبين منه من مؤسسات الدولة وسيطرة أحمد حامد، في صراع ممتد على الوظيفة العامة. وفتحت الهدنة الطويلة عيون معظم المقاتلين وقادتهم المباشرين، حيث يشعرون أنهم كانوا وقوداً للحرب فيما يحصد آخرون المكافئات، وقد سبب ذلك مشكلة كبيرة لمكتب زعيم الجماعة الذي عكف خلال العامين الماضين على تلقي الطلبات من قادة الكتائب والمعسكرات وشيوخ القبائل للحصول على حصتهم. 

يعتقد مكتب زعيم الحوثيين أن إعلان حكومة جديدة يمنح أنصار الجماعة آمالاً تحقق تطلعاتهم للوظيفة العامة، خاصة الذين أصيبوا بالصدمة بعد عودتهم من جبهات القتال، ووجدوا أن قادة الجماعة يعيشون في ثراء فاحش، فيما يعاني أنصارهم وعائلاتهم وبقية اليمنيين من الفقر[6]. وهو فِعل مؤقت للغاية إذ سرعان ما تنكشف وتعود الخلافات والغضب من جديد.

 

  • خارطة الطريق: جاء تشكيل حكومة الحوثيين بعد أسابيع من إعلان هانس غروندبرغ المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، عن اتفاق الحكومة المعترف بها دولياً، وجماعة الحوثي على اتفاق تدابير لخفض التصعيد الاقتصادي والمصرفي وتوسيع الرحلات الجوية المباشرة بين صنعاء لتشمل القاهرة والهند، وينهي الإتفاق الجديد إجراءات البنك المركزي المعترف به دولياً ضد البنوك في مناطق الحوثيين، ويرضخ لكل شروط الحوثيين، وسبق أن تم الاتفاق على الخطوط العريضة لخارطة طريق الأمم المتحدة للسلام في أوائل ديسمبر/كانون الأول2023 بناءً على المفاوضات بين الحوثيين والسعوديين دون مشاركة الحكومة المعترف بها دولياً، لكن تم تجميد التقدم مع تصعيد الحوثيين لحملة هجماتهم في البحر الأحمر.

 

تكتيكات البقاء 

عادة ما تتجاهل الأوراق البحثية المعنية بالديناميكيات الداخلية بشكل عام، استقرار جماعة الحوثي وحكمها في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وحاجتها إلى الفصائل الموالية والمؤيدين بدلاً من المسؤولين المؤهلين، حيث يتم تعيينهم في المؤسسات الدينية والعسكرية والأمنية، وترى الجماعة أن الخطر الذي يتهدد بقائها على المدى المتوسط ليس الاحتجاجات الشعبية فهي ليست العامل الوحيد لانهيار النظام، حيث التهديد قادم من بقاء النظام شكل انقلاب تنفذه النخب السياسية والعسكرية، وهم بذلك يرون في "المرونة الاستبدادية" إلى أبعد من الحقيقة القائلة بأن "الشرعية العالية تعادل البقاء، والشرعية المنخفضة تعادل انهيار النظام المحتمل" كما يرى "احتشامي" وغيره[7]

وبالنظر إلى برنامج حكومة الحوثيين الجديدة[8] التي جرى الإعلان عنها فإن مسؤولياتها تتجاوز تسيير السلطة إلى بناء أنظمة للحكم الاقتصادي والسياسي، تحمل مرونة غير عادية في إدارة الوصول إلى الموارد والفرص الاقتصادية، وتخصيصها لصالح قادة جماعة الحوثي وشبكة من المنتفعين، وبذلك تقدم صورة لاستيعاب أهداف الجماعة في "التغييرات الجذرية" من خلال المراكز المالية الخاضعة للجماعة مع إضافة مؤسسات وسياسات جديدة، والاستيلاء على الأطر المؤسسية الرسمية من قِبل شبكات مفترسة غير رسمية، واستخدام السياسة الاجتماعية والمناطقية لمكافأة الموالين والمؤيدين وتهميش الآخرين. ويمكن ملاحظة التالي: 

  • أولوية الحرب: تحدد حكومة الحوثيين أن هدفها في المرحلة المقبلة “تعزيز مواجهة العدوان ودعم الجبهات”؛ في إشارة إلى مواجهة الحكومة المعترف بها دولياً، ويملك الحوثيون طموحات، بما في ذلك الاستيلاء على موارد النفط والغاز، لذلك، لا يزال الدافع وراء الحرب قويا، وفشلت الحركة مراراً من الوصول إلى مناطق النفط والغاز في محافظة مأرب شرقي اليمن بين (2020-2022)، كما حدد البرنامج أن أوعية الإنفاق الخاصة بها "تعزيز الجاهزية القتالية ودعم الجبهات بالمقاتلين والأسلحة والمعدات المتطورة”، و“تطوير القدرة الصناعية في مجال الإنتاج الحربي”، و“تعزيز القدرات الأمنية (المخابراتية)”.

وهو ما يعني أنه وعلى الرغم من الحديث عن خارطة طريق للسلام في اليمن، فإن برنامج حكومة الجماعة تضع ملف السلام في "العلاقات الخارجية" دون الإشارة إلى الحكومة المعترف بها دولياً الموجودة في عدن، وتشير إلى أن ملف السلام مرتبط بالحوار مع المملكة العربية السعودية؛ حيث يفضل الحوثيون التفاوض مع ائتلاف التحالف المكون للحكومة كل على حِدة بدلاً من التفاوض مع كيان موحد بصفتهم كيانات معارضة أو متمردة عن حكم الجماعة.

 

  • إيرادات جديدة: بما أن الحوثيين يضعون الحرب كأولوية فإن تحصيل نفقاتها هي مهمة أي سلطة تدير مناطقها، لذلك فإن مهمة الحكومة الجديدة -كما تقول- ليس دفع رواتب القطاع العام؛ بل زيادة الإيرادات، ويؤكد برنامجها أنها سترفع الرسوم الحكومية على الخدمات، والتي تضاعفت بالفعل خلال سنوات حكم الجماعة[9]، و "الاهتمام بالزكاة" وتقدر إيرادات الحوثيين 2023 من الزكاة 150 مليار ريال (283 مليون دولار). الحصول على المزيد من الإيرادات من تحويلات المغتربين، والمنح الخارجية، وتبلغ تحويلات أكثر من 6 ملايين مغترب يمني 4 مليارات دولار سنوياً (وفق تقرير البنك الدولي2023، وستقوم “برفع مستوى إيرادات قطاع الاتصالات”، ما يعني ضريبة جديدة على قطاع الاتصالات والانترنت الأغلى في العالم، وتقول الحكومة اليمنية إن الحوثيين يتحصلون على 2 مليار دولار سنوياً من قطاع الاتصالات[10].

 

  • التحول من جماعة إلى نظام: يسعى الحوثيون لبناء نظام حكمهم من أجل استغلال الأطر المؤسسية الرسمية والتلاعب بها، وتغيير الأدوار والوظائف التنظيمية بين أجهزة الدولة لتحقيق مصلحة الجماعة، ويخطط الحوثيون لدمج أكثر من 200 مؤسسة للدولة، واستصدار قوانين، ولوائح جديدة[11]، تتناسب وتحول الجماعة إلى نظام حكم. ومعها تتداخل وتتعايش أنماط متعددة من الحكم الاقتصادي: فالاستراتيجيات القائمة على المراكز المالية الجديدة، والزبائنية[12]، والموجهة من قِبَل الدولة توفر ثروة من الفرص لإدارة دوائر نظام الجماعة/السلطة حتى ولو أدت التحولات في ميزان الفرص في بعض الأحيان إلى توترات بين الدوائر المتنافسة داخل الجماعة والسلطة إلى استياء واسع النطاق في المجتمع.

 

  • العسكرة والأمننة: يسعى الحوثيون لبناء نظام ثوري يبقي حالة الحرب في اليمن، وخلال المدى القريب والمتوسط سيركزون على تحويل المظاهر المدنية في البلاد إلى عسكرية أمنية، ويملك الحوثيون تاريخاً من استخدام القوة لقمع أي انتقاد في مناطق سيطرتهم مهما كان بسيطاً ويشمل ذلك الاعتقالات الجماعية، والسجن، والتعذيب، والإعدامات، وهو ما يركز عليه برنامج حكومتهم الجديدة عند الحديث حول "تعزيز الصمود" ودعم "المخابرات وكشف خلايا التجسس"، وفي المستقبل سيكون من المعتاد توجيه الاتهامات بالتجسس لصالح المخابرات الأجنبية اعتيادياً.

يشمل ذلك استخدام شبكة الولاء من المتحمسين "خريجي المراكز الصيفية" كقوات دعم فيما يشبه إلى حد كبير "الباسيج" في إيران، وتخصيص المزيد من الإيرادات لبناء شبكات مراقبة واسعة النطاق بما في ذلك المخبرين، والكاميرات المراقبة، ومراقبة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

 

  • الاستقطاب والرعاية: يستخدم الحوثيون نظام المحسوبية والزبائنية والحوافز الاقتصادية للحفاظ على الدعم، وهذا ينطوي على توزيع الموارد والفوائد على الموالين، وخلق شبكة من التبعية قادرة على الدفاع عن الجماعة المسلحة تجاه الانتقادات الموجهة لها داخلياً، والمعارضة لها. 

ويظهر برنامج حكومتهم الجديدة تجاهل مجانية التعليم والخدمات الصحية والمشاريع الصغيرة وتكافؤ الفرص، ركزت على رعاية "أبناء الشهداء" وهم أبناء قتلى الجماعة، والاهتمام بمنحهم "مجاناً" معظم الخدمات الحكومية بما في ذلك فرص الابتعاث للدراسة خارج البلاد. 

كما يقدم الحوثيون حوافز اقتصادية للأفراد والمجموعات القبلية التي تدعم سياسات الجماعة مثل الوظائف وفرص العمل ليس فقط في القطاع العام بل وحتى الخاص، ومناطقهم الأولوية في المشاريع، ويلاحظ تركيز برنامج الحوثيين على أن تمنح "الحوافز" لمن يعملون في الميدان بما في ذلك بدلاء المعلمين الذي يتسلمون "حوافز منتظمة" على مستوى شهري من الحركة المسلحة، بينما لا يتسلم المعلمون الرسميون رواتبهم منذ سنوات. 

يسعى الحوثيون من خلال هذه الطريقة إلى بناء شبكة دعم محلية واسعة تكسبه شرعية الحكم عبر علاقات تكميلية مستخدمين شبكات الرعاية والاستقطاب كأداة بديلة للحصول على "الشرعية"، وتقويض شرعية الحكومة المعترف بها دولياً، حيث ينشئ الحوثيون شبكات مؤسسية متعددة كأنظمة تكميلية لإعادة توزيع الفرص، مثل: الدعم الزراعي، دعم الفقراء، أسر الشهداء (قتلى الجماعة). وشبكات محسوبية، مثل: المؤسسات القبلية الموازية؛ لتوليد الولاء والشرعية بين القطاعات الاجتماعية المعينة التي تخدمها لأن مصالحهم واحتياجاتهم مرتبطة ببقاء الجماعة، ويمكن أن يساعد الجماعة في حال حدوث انتخابات نيابية ومحلية، عقب انتهاء الحرب بالتأثير على الدوائر الانتخابية لصالحها. 

 

  • الشرعية الدينية: يؤكد الحوثيون على "أيدولوجيتهم الدينية" باعتبارهم أبناء رسول الله، وحارسين للقيم الإسلامية، لحشد الدعم بين الشرائح المتدينة من السكان، ويركز برنامج حكومة الحوثيين على "الهوية الإيمانية"، وفي اجتماعها الأول بدأت بتذكر "عهد مالك الأشتر للإمام علي بن ابي طالب"، وسبق أن فرض الحوثيون مدونة "سلوك الموظفين" في 2022 لتعزيز هذه الأيدلوجية[13]. كما تمنح سيطرة الحوثيين على المساجد والمعاهد الدينية للترويج لأيدولوجيته وسياساته.
  • الخطاب القومي: عمل الحوثيون على تعزيز شعور اليمنيين بالفخر الوطني ومعاداة القوى الإمبريالية، بشن هجمات ضد السفن الغربية في البحر الأحمر الموالية للاحتلال الإسرائيلي، ويظهرون الكثير من السعادة بشن هجمات على الأراضي الإسرائيلية ورد الاحتلال بقصف ميناء الحديدة[14]، كما أن إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا عملية قصف جوي على البر اليمني يعزز طرح الحوثيين بمواجهة الغرب، وهو يساعد في حشد الدعم الشعبي للجماعة ضد التهديدات الأجنبية المتصورة. 

يستمر الحوثيون في الترويج للأمجاد اليمنية القديمة التي تركز على دور اليمنيين في دخول الإسلام، ودعمهم للإمام علي بن ابي طالب، والأئمة الآخرين بما في ذلك "عهد مالك الأشتر" باعتباره "قومية يمنية/إسلامية". 

 

عند النظر لملامح استراتيجية الحوثيين الحالية من خلال عدسة الاستبداد المؤتلف، فإنهم يسعون إلى استنساخ مرونة النظامين في إيران وسوريا على البقاء والصمود، إذ تتشابه خطوات الجماعة للتغيّرات الجذرية، مع ما تعتمده طهران ودمشق للبقاء من خلال الاعتماد على شبكات المحسوبية، واستغلال الأطر الرسمية لتحقيق أهداف الجماعة، وتغيير الأدوار والوظائف في أجهزة الدولة لتحقيق الأهداف، ولن يكون ذلك بدون مساعدة من إيران التي أعلنت عقب تغيير الحكومة عن وصول سفير جديد إليها "علي محمد رضائي". ولا يمكن قراءة وصوله بدون تحولات الجماعة الجديدة، خاصة إذا ما أعدنا قراءة الدور الذي لعبه السفير السابق حسن إيرلو الذي كان ممسكا بملف اليمن منذ 2015 قبل تعيينه رئيساً للدبلوماسية في صنعاء عام (2020-2021) حيث تزامن مع إعادة الجماعة تنظيم قواتها، ودوائر وصناعة القرار داخلها، وبدأت الحركة معها معركة واسعة للسيطرة على محافظة مأرب الغنية بالنفط[15].

 

ثنائية الداخل والخارج 

تسبب فشل الحوثيين في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتهم، إلى تآكل الدعم الداخلي من المجتمع الذي يزداد غضبه يوماً عن آخر، والذي يتزامن مع الضغط الخارجي خلال سنوات الحرب وعقب الهدنة، وهو ما جعل السياسة الخارجية مجالاً جذاباً بشكل خاص لجهودهما الرامية إلى تجديد وإحياء شرعيتهما في الداخل، فشنت الحركة هجمات في البحر الأحمر وخليج عدن دعماً للفلسطينيين الذين يتعرضون لحرب وحشية من الاحتلال الإسرائيلي بدعم كامل من الولايات المتحدة وبريطانيا. 

إن فهم تحركات جماعة الحوثي مدفوعة إلى حد كبير بدوافع البقاء كسلطة حاكمة في مجتمع يبدو واضحاً أنه يزداد سخطاً على الجماعة المسلحة بعد سنوات الحرب العشر الماضية، وفشلها في إدارة السلطة، والتي يمكن فهمها من خلال الصفات العلائقية داخلية وخارجية التي تمكن صانعي القرار داخل الحوثيين من تكييف استراتيجيتهم مع الظروف المحلية والدولية المتغيّرة. 

كما أشرنا إلى سلوك الحوثيين للحصول على الشرعية الداخلية، فإن سلوكهم الخارجي يبين تصورهم للحصول على الشرعية الخارجية في عالم متعدد الانفتاح، واستخدام هذه الثنائية لتعزيز شرعيتهم الداخلية والخارجية. 

 

  • هجمات البحر الأحمر رافعة سياسية: استخدم الحوثيون الهجمات البحرية -التي يقولون إنها دعماً لقطاع غزة- في تعزيز صورتهم الإقليمية بصفتهم ممثلين شرعيين لليمن. وعلى الرغم من ربط الحوثيين إنهاء هجماتهم بتوقف الحرب في غزة إلا أنه لا يوجد ضمان على التزامهم بذلك، ولن تُعدم الحيّلة لإيجاد مبررات أخرى لاستهداف الملاحة الدولية للحصول على تنازلات سياسية، وهو الأمر ذاته الذي استخدموه مع المملكة العربية السعودية خلال سنوات الحرب باستهداف منشآتها الحيوية (النفطية والاقتصادية) للضغط من أجل تحقيق أهداف سياسية على حساب الحكومة المعترف بها دولياً[16]، وكان آخرها في يوليو/تموز 2024 حين هدد الحوثيون باستهداف المطارات والموانئ السعودية إذا لم تجبر حليفتها الحكومة المعترف بها دولياً على إلغاء قرارات البنك المركزي[17]وهو ما حدث بالفعل بالتوصل إلى "اتفاق خفض التصعيد الاقتصادي".

 

  • تضخيم العدو: عادة ما استخدم الحوثيون التهديدات الخارجية بوصفها رأسَ مال سياسي لمواجهة أي معارضة في الداخل، وساهمت الهجمات الأمريكية-البريطانية والتحشيد الغربي إلى البحر الأحمر قبالة اليمن، والهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة[18]، في دعم دعاية الحركة بشأن الخطر الخارجي، إذ يجيد الحوثيون تحويل التهديدات إلى ذرائع لفرض تغييرات شاملة للنظام السياسي والاجتماعي في مناطق سيطرتهم، مكّن ذلك الجماعة من قمع أي معارضة، وتبرير الحملة الوحشية على منظمات المجتمع المدني واتهامهم بالعمل في خلايا التجسس لصالح أجهزة المخابرات الغربية، وهو ما يتسق مع أهدافها بإعادة تشكيل المجتمع وفرض عزلة ذهنية وتوجس من الخارج، وتضخيم ماهية العدو، والتقليل من شأن كل ما كان موجودًا قبل هذه التغييرات، واعتباره صناعة العدو والخارج. 

 

  • العلاقات الخارجية: خلال هجمات البحر الأحمر عزز الحوثيون وجودهم في "محور المقاومة" ما يعني تعزيز علاقتهم مع النظام في طهران على عكس ما كان متوقعاً بعد الاتفاق الإيراني/السعودي 2023م، كما توسعت علاقة الحوثيين مع الروس والصينيين ومصر، لكن ليس بالقدر الذي يعترف بشرعيتهم، إنما بالقدر الذي يمنحهم تواصلاً منتظماً مع بكين وموسكو والقاهرة بشأن أمن سفنهم التي تمر قبالة اليمن، والتأثير على الولايات المتحدة، وهو ما يمكن الجماعة من مواجهة الضغوط الغربية في مجلس الأمن وفي السياسة الدولية، وتقول تقارير أن روسيا تدرس تسليح الحوثيين في اليمن بصواريخ متطورة مضادة للسفن ردا على دعم إدارة بايدن للضربات الأوكرانية داخل روسيا بأسلحة أمريكية[19].

بشكل عام فإن استخدام الحوثيين للتهديدات الخارجية كأداة سياسية داخلية هو تكتيك شائع تستخدمه إيران ووكلائها في المنطقة، هذا التكتيك يهدف إلى تحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز السلطة، ولكنه غالباً ما يؤدي إلى تفاقم الأزمات وتأجيل عملية السلام.

 

المرحلة القادمة 

لا يسعى الحوثيون إلى التحكم/أو/ إدارة مؤسسات الدولة في وضع طوارئ بسبب الحرب -كما تصوره الجماعة في مناطقها- بل يهدفون إلى نفوذ دائم وكبير في مختلف هياكل النظام، الأمر الذي يمكّن الحركة من التحكم بمؤسسات الدولة، وتعزيز الانقسامات الداخلية والخارجية الذي ينزع الشرعية عن المعارضين في مناطق سيطرتها ويستبعد أي مظاهر للاحتجاجات، واستخدام أدوات الضغط العسكرية ضد الخارج لانتزاع اعتراف دولي ونزع الشرعية عن خصومها المحليين.  

تتفاوت فعالية الاستراتيجية الجديدة لبناء الحوثيين دولتهم، بناء على احتجاج النخبة والدعم الشعبي لها والذي عادة ما سيتأرجح بين ضيق واتساع بناء على المكاسب السياسية يجنيها الحوثيون من تفسيرهم للتحديات الخارجية، ومدى قَبول الجماهير بها، على أساس التحدي الذي يواجه الجماعة في حينه. 

 

مراجع


[1] في بقية هذه الورقة يشار لحزب المؤتمر الشعبي العام (جناح صنعاء) باختصار "مؤتمر صنعاء". 

[2] يمن مونيتور، صراع الحلفاء المتشاكسين… هل يسقط مؤتمر صنعاء “مهدي المشاط” من رئاسة المجلس الأعلى؟، نشر في (2/9/2023) وشوهد في 2/9/2024 على الرابط https://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/96150

[3] ثلاثة أعضاء في اللجنة المركزية ل"مؤتمر صنعاء" تحدثوا عبر الهاتف لباحث في مركز أبعاد للدراسات والبحوث في 30/8/2024م اشترطوا عدم ذكر هوياتهم خشية "انتقام الحوثيين"! 

[4] حسب وزارة الدفاع الأمريكية (Houthi Attacks Placing Pressure on International Trade) نشر في ابريل/نيسان 2024 وشوهد في 3/9/2024 على الرابط: https://www.dia.mil/Portals/110/Images/News/Military_Powers_Publications/YEM_Houthi-Attacks-Pressuring-International-Trade.pdf

[5] يمكن الاطلاع على ورقة مركز أبعاد للدراسات والبحوث: الاستراتيجية الغربية في البحر الأحمر وخيارات الردع, نشرت في 17/7/2024 وشوهدت في 3/9/2024 على الرابط: https://abaadstudies.org/ar/strategies/topic/60120

Western Strategy in the Red Sea and Deterrence Options https://abaadstudies.org/strategies/topic/60120

[6] هاشم, عدنان، "التغييرات الجذرية".. إحكام القبضة الحوثية على السلطة أم توجّه نحو الإصلاح؟ نشر في 18/10/2023 وشوهد في 3/9/2024 على الرابط: https://ygcs.center/ar/estimates/article59.html

[7] Ehteshami, Anoushiravan, et al. “AUTHORITARIAN RESILIENCE AND INTERNATIONAL LINKAGES IN IRAN AND SYRIA.” Middle East Authoritarianisms: Governance, Contestation, and Regime Resilience in Syria and Iran, edited by Steven Heydemann and Reinoud Leenders, 1st ed., Stanford University Press, 2013, pp. 222–44. JSTOR, https://doi.org/10.2307/j.ctvqsds1z.14. Accessed 10 Sept. 2024.

[8] برنامج حكومة الحوثيين الذي وافق عليه "برلمان" مجلس النواب الموالي للجماعة في صنعاء نشر في 19/8/2024، وشوهد في 1/9/2024 على الرابط: 

https://www.saba.ye//storage/files/blog/1724095117_EQtN3S.pdf

[9] Final report of the Panel of Experts, in accordance with paragraph 16 of resolution 2624 (2022), 21/2/2023, See, 1/9/2024, Link: https://documents.un.org/doc/undoc/gen/n22/770/93/pdf/n2277093.pdf

[10] رئاسة مجلس الوزراء اليمني، وزارة الاتصالات تدين استهدف مليشيا الحوثي الانقلابية الإرهابية للبنية التحتية العالمية للاتصالات، نشر في 27-2-2024 وشوهد في 11/9/2024 على الرابط: https://pmo-ye.net/post/6710

[11] مسؤول كبير مطلع على التفاصيل في حكومة الحوثيين في صنعاء تحدث لباحث في مركز أبعاد للدراسات والبحوث في 10/9/2024م عبر تطبيق مشفر.

[12] Heydemann, Steven, and Reinoud Leenders. “AUTHORITARIAN GOVERNANCE IN SYRIA AND IRAN: Challenged, Reconfiguring, and Resilient.” Middle East Authoritarianisms: Governance, Contestation, and Regime Resilience in Syria and Iran, edited by Steven Heydemann and Reinoud Leenders, 1st ed., Stanford University Press, 2013, pp. 1–32. JSTORhttps://doi.org/10.2307/j.ctvqsds1z.5. Accessed 10 Sept. 2024

[13] لماذا تقاوم جماعة الحوثي السلام وتهرب إلى الحرب؟ (مركز أبعاد للدراسات والبحوث) تاريخ النشر 21/7/2023 وشوهد في 10/9/2024 على الرابط: https://abaadstudies.org/policy-analysis/topic/59963

[14] يمكن الاطلاع على ورقة مركز أبعاد للدراسات والبحوث: التداعيات الجيوسياسية للهجوم الإسرائيلي على الحديدة تتجاوز الحوثيين, نشرت في 16/8/2024 وشوهدت في 3/9/2024 على الرابط: https://abaadstudies.org/policy-analysis/topic/60124

Israeli Attacks on Hodeida: Geopolitical Consequences Go Beyond Houthis 

https://abaadstudies.org/en/policy-analysis/topic/60124

[15] صراع على النفوذ وحرب بالوكالة في اليمن (مركز أبعاد للدراسات والبحوث) تاريخ النشر 8/1/2021، وشوهد في 13/9/2024 على الرابط: https://www.abaadstudies.org/index.php/strategies/topic/59860

[16] Turmoil in the Red Sea: Assessing the Houthis’ strategic agenda, IISS, 1-5-2024, 3-9-2024

https://youtu.be/itdgl1Qlf4Y

[17] يمكن الاطلاع على ورقة مركز أبعاد للدراسات والبحوث: هل تعزز خارطة الطريق ميزان القوى المختل؟، نشرت في 07/8/2024 وشوهدت في 3/9/2024 على الرابط: 

https://abaadstudies.org/policy-analysis/topic/60123

Proposed Roadmap for Peace in Yemen and the Reinforcement of Imbalanced Power Dynamics between Government and Houthis https://abaadstudies.org/en/policy-analysis/topic/60123

[18] : التداعيات الجيوسياسية للهجوم الإسرائيلي على الحديدة, مركز أبعاد للدراسات والبحوث مصدر سابق

Israeli Attacks on Hodeida: Geopolitical Consequences Go Beyond Houthis 

[19] Gordon, Michael:  U.S. Launches Effort to Stop Russia From Arming Houthis With Antiship Missiles, 19/07/2024, See: 10/9/2024, Link: https://www.wsj.com/world/middle-east/u-s-launches-effort-to-stop-russia-from-arming-houthis-with-antiship-missiles-98131a8a

نشر :